الاثنين، 29 أبريل 2013

التدفق الطَبَقي

من سمات المُجتمع الصحّى أن الحدود بين الطبقات ليست حدود مغلقة يصعب عبورها ؛ وإنما هى من المرونة بحيث تُتيح لشخص قادم من أدنى قاع المجتمع أن يستغل إمكانياته ومواهبة فى الصعود طبقيّاً والتدرُّج إجتماعياً لأقصى حد . لكن هذة النظرة اليوتوبية "المثالية" لا تجد لها مكاناً فى المجتمع الشرقى العربى عموماً والمصرى خصوصاً ، ليس لأنه مُجتمع طبقى ؛ فالطبقية ليست عيباً مادامت قائمة على أُسس سليمة ، لكن لأن آلية الإنتقال الطبقى ـ أى صعود الفرد من طبقته الإجتماعية إلى ما هو أعلى مُعتمداً على إمكاناته الشخصية ـ تُعانى من مشاكل كثيرة ليس آخرها الميراث الإقطاعى النفسى فى قُدامى المُرفّهين الذين تتجذّر فى نفوسهم مشاعر الأصالة ونقاء العِرق إلى آخره . 

فمن بداية الصعود وحتى أقصاه ، يواجه الأشخاص المُفعمون بالطموح عقبات كثيرة تتنوع حسب مستوى "القاع" الذى هُم قادمون منه ومستوى "القمة" التى يريدون الوصول إليها ، فهُناك سمات معينة إن توافرت بدرجة معينة فى القاع قد يكون هو الأكثر إنحطاطاً فى العُرف البرجوازى القاهرى ، مثلاً أشباه الأثرياء فى المناطق الشعبية بالقاهرة أكثر رُقيّاً ـ بالنظرة البرجوازية المريضة ـ من أثرياء الصعيد ، وأثرياء المُدن الكُبرى بالصعيد أكثر رُقيّاً من صغار الإقطاعيين بالقُرى والنجوع الذين هُم بدورهم أكثر رًقيّاً من فُقراء القُرى الصعيدية ، وعلى هذا المقياس الأحمق الذى تكوّن بالوراثة والإكتساب يُصبح الفرد القادم من قرية صعيدية عادية وليس إقطاعياً هو قادم ـ حرفياً ـ من قاع المجتمع .

هذا المقياس لن تجده فى أى إحصائية حكومية ، لكنك ستشعر به يلمس أعصابك لو تعاملت مع أى مؤسسة أو شركة قطاع خاص يمتلكها برجوازى قاهرى ، حيث أن القاهريين وأهل الاسكندرية يسكنون ـ عُرفاً ـ قمة الهرم الإجتماعى بحُكم شهادة الميلاد والتوجه الحكومى الراسخ من عشرات السنين بتفضيل الشمال على الجنوب واستئثاره بكل ما هو مُمكن فتنحدر مستوى الإمتيازات تدريجياً كلما اتجهنا جنوباً حتى تكاد تنعدم فى مناطق مُعينة ثم ترتفع مرة أخرى فى الأقصر السياحية لأنها توفّر مصادر الدخل للحكومة البرجوازية ثم تُعاود الإختفاء مرة أخرى مع الإبتعاد عن مصادر السياحة .

ويُعانى أبناء الطبقة الوسطى فما أقل مُعاناة شديدة لسببين ؛ أولهما العنصرية المقيتة التى يُظهرها ويُخفيها البرجوازيون والأرستقراطيون الجُدد والقُدامى فى المدن الكبرى والتجمعات الحضارية ، ثانياً الشعور المُترسّب داخل الفرد القادم من قَعر المجتمع راغباً فى الطفو إلى سطحه ، فهو ـ غالباً ـ يشعر إما بالإمتنان والعرفان بالجميل لكل من يمد لهُ يد العون ؛ ويتوقع دائماً أن يوجد هذا الشخص الذى ينتشله من كل مطب فى طريق الصعود ؛ وهنا قد يتحول الفرد الصاعد إلى شخص وصولى مُتسلق مُتملق حقير . وإما يشعر بالحقد والكراهية تجاه كل ما هو طبقى ، وهُنا قد يتحول لحشرة تافهة تُنادى بمبادئ وقيم ليس لها معنى إلا فى خياله فيُهدر أيام حياته فى مشاعر سلبية بالحقد على الأثرياء والمُرفهين . 

هذة الحالة ليست هى المرض الإجتماعى الوحيد لكنها الأخطر ، فصعوبة التدفق بين الطبقات الإجتماعية تؤدى غالباً إلى انتشار مشاعر الكراهية والحقد وزيادة أعداد المُتسلقين والوصوليين وهو ما يؤدى بالتبعية إلى ظهور طبقة مُتوحشة من البرجوازيين المُحدثين الذين بذلوا كل ما هو غير أخلاقى للوصول إلى وضعهم الإجتماعى ويريدون بذل المزيد من أجل الحفاظ على هذا الوضع بأى ثمن ولو على حساب الكفاءات الواعدة الحقيقية ، ويمكنك أن ترى علامات هذة الطبقة فى أسماء مُعينة من المليونيرات الجُدد منهم احمد عز وأمثاله الذى تسلّق سياسياً وإجتماعياً على أكتاف النظام الأوتوقراطى السابق ؛ والمتسلقين على النظام الثيوقراطى الحاكم حالياً .

ما نحتاجه ليس فقط إعادة تثقيف المجتمع ؛ وإنما تفعيل وسائل الترقية الإجتماعية وتمكينها فى الأماكن الأكثر تعرضاً للاضطهاد الطبقى والعنصرية ـ أعنى الصعيد بصراحة ـ وتحويل المدن الصعيدية الكُبرى إلى تجمعات حضارية حقيقية تُصبح مراكز جذب حضاري وإجتماعي حتى لا يجد الطموحون أنفسهم فى مواجهة حتمية مع مجموعة من العُنصريين البرجوازيين الحمقى الذين قد يمنعوا مواهب كثيرة من الظهور فقط من أجل الحفاظ على نقاءهم الإجتماعى المزعوم . قد ننتظر كثيراً قبل أن يحدث هذا ، قد ننتظر على الأقل حتى وجود رؤية سياسية مُخلصة تنظر جنوباً .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليقك لازم يكون مفيد، الشكر وإبداء الإعجاب أمور غير مفيدة.