الثلاثاء، 25 ديسمبر 2012

الأزهر والإلحاد




منذ ما يقرب من تسعمائة عام ، كان الراهب الفيلسوف الإيطالى توما الإكوينى يعقد مناظرات مع المُلحدين ومنكرى وجود الله ، وانتشر الزخم الفكرى فى النقاش ما بين المؤمنين والملحدين ، حتى أن كبار الفيزيائيين والرياضيين كانوا أطرافاً فعالة فى هذة النقاشات ، كان هذا بعد أن أدركت الكنيسة الكاثوليكية أن تجاهل التيارات الفكرية ومحاولة قمعها هو إتجاه غير كافى لوقف المد الرافض لسلطات الدين ، فلجأت إلى صنع تيارها العقلانى الخاص بها عن طريق قساوسة متخصصين فى دراسة اللاهوت وتقريبه للعامة والإحتجاج به ، وكان على رأس هؤلاء كما ذكرنا توما الأكوينى الذى استطاع صناعة مدرسة فلسفية خاصة به تركت آثارها على الفلسفة الغربية بشكل عام .

هذة هى طبيعة الأشياء ؛ والطبيعة المثالية التى يجب أن تنتهجها أى مؤسسة دينية لها عقل ، أن تجد لك معارضين لهم عقول يُدركون بها فترد عليهم بالمنطق والعقل وتُصدر لهم كفاءاتك الفكرية ، وإن أردنا أن نطبق الأمر على حالة مماثلة فى الوطن ، فإن أعيننا تتجه صوب المؤسسة الناطقة باسم الإسلام المعتدل حول العالم ، عن الأزهر الشريف أتحّدث .

عندما أعلن مواطن مصرى بسيط أنه كفر بالله رداً على نقص العدالة فى توزيع الأرزاق "من وجهة نظره" ؛ كنت أتوقع من المؤسسة التى أعطاها كل مسلم معتدل تفويضاً للحديث باسمه أن ترد على هذا المواطن وتلاقيه الحجة بالحجة ، وما أحسب أن له حجة قوية أصلاً أو أنه قد إتجه إلى الكُفر إقتناعاً أو بعد دراسة ، وكان يكفى جداً بعض الكلام معقول الوزن من عالم دين أزهرى فاضل حتى يقتنع هذا اليائس أن الإتجاه الرافض إطلاقاً ليس هو الحل ..

لكن الأزهر الشريف تجاهل الأمر تماماً كما تعود من قبل أن يتجاهل كل المصائب التى تحيط بالإسلام ديناً ، وكما تعود أن يتجاهل الأفواج التى تخرج من دين الله ، وكما تعود أن ينغمس فى السياسة حتى النهاية ناسياً بمجلس علمائه وشيوخه الأجلاء مهمته الأساسية وهى الدفاع عن هذا الدين والرد عن المسلمين الذين أودعوهم أمانة الدعوة ، سكت الأزهر ولم يحر رداً كأن هذا الرجل قد خرج من الدين البوذى إلى الدين الهندوسى وليس لنا من الأمر شئ ، ثم نطق الشيخ على المهدى وكيل وزارة الأوقاف وليته ما نطق أبداً ، خرج ليقول أن "من يُشرك بالله فيجب عرضه على طبيب نفسى" ! ( الفتوى هــنــا )

ألا تستحى يا رجُل ؟!
ألا تدرك كم مسلم سابق فى هذا المجتمع ؟
ألا تُدرك يا شيخنا الفاضل يا من درست العِلم الشرعى فى الأزهر الشريف أن الإمام أبا حنيفة كان يناقش من يرتد عن دين الله ويلاقيه الحجة بالحجة ، وأن الإسلام دين المنطق لا دين التفسيرات المُسبقة ، إن كان ما درسته وما عَلمته من دين الله لم ينفعك فى شئ حتى أن ردك على الخروج من دين الله كان دعوة عقيمة للعلاج النفسى ، فما أسوأ علمك إن لم تنفع به دينك .

تستمر مهزلة التجاهل ؛ يخرج المسلمون من دين الله كما دخلوه أول مرة أفواجاً أفواجا ، فلا نرى مثلما فعلت الكنيسة فى العصور الوسطى ـ على ظلمها وبشاعتها ـ من الإهتمام بتقريب المُفكرين الدينيين وتنظيمهم فى مدرسة فكرية تهدف للدفاع عن الدين ، وإن كنت أعتب على أحد فلا أجد إلا الأزهر ، لكنه عتاب المُحب المخلص ؛ وعتاب المُسلم الغيور الذى أرهقه الهزال الفِكرى والجدب العقلى الذى تعيشه مؤسساتنا الدينيه ، حتى أنى لم أرى حتى الآن الأزهرى اللبق المُتحدث العالم الذى يجادل الخارجين من الدين فيعيدهم إليه ، ولنتساءل هل ترك الأزهر هذة المهمة للشيخ ديدات والشيخ عمر عبدالكافى ؟ ، وهل تكفى جهودهما وغيرهما من الجهود الفردية ؟

إن الأمر يحتاج لعمل مؤسسى لا عمل فردى ، وما كان عمل الأفراد فى هذا العصر لَينصر ديناً ما لم يصاحبه دعم مؤسساتى قوى ، لكنى أحزن إذ أرى مؤسسات متخصصة فى نشر الإلحاد مثل تلك التى أسسها العالم البريطانى من أصل كينى ريتشارد دوكينز ، ولا أرى من أزهرنا إلا دعماً لهذا المرشح السياسى أو ذاك ، وفتاوى عن النقاب والحيض والنفاس .

لنتخذ أُسامة درة كمثال ؛ هو شاب مصرى كان ينتمى لأحد التيارات السياسية الدينية التى لديها القدرة على جعلك تميل للكفر أكثر من ميلك للإيمان ، وبعد أن انفض من هذا التيار الإسلام ـ سياسى ؛ أخذ يُعمل عقله فى القضايا الدينية والأفكار الإلحادية ، وانتهى إلى أن يتخلص من الإسلام تماماً ، هذا موقف من الممكن أن يتخذه أى إنسان لديه عقل ، فالإيمان إن لم ينشأ عن يقين قوى وإقتناع صادق فهو أقرب للجهل ، وجميعاً نذكر تجربة الدكتور مصطفى محمود ولا داعى لسردها ، ترك أسامة درة الإسلام تماماً وكتب عن ذالك مقالاً يشرح فيه أسبابه ، وتصدى للرد عليه أحد العلماء الشباب الذين تلقوا علمهم الشرعى فى الأزهر الشريف ؛ وهو الشيخ أسامة الأزهرى ؛ ورد عليه أسامة درة بمقال آخر .. ؛ كان سجالاً رائعاً لمست فيه الرُقى فى كلا الطرفين ، ولمست فيه الضعف والوهن الذى ينخر فى عظم الأفكار الأزهرية ، وأدركت ما وصلنا إليه بعد عقود وعقود من تجاهل الإقناع الدينى والإتجاه إلى سياسة فرض الدين كأمر واقع ، فلم يعد بيننا توما الأكوينى الأزهرى الذى يستطيع أن يصبغ النقاشات بالصِبغة العقلانية بعيداً عن سياسات التشكيك فى الآخر وفى قواه العقلية وفى مهاراته البحثية ، كل ما فعله الشيخ أسامة الأزهرى أن شكك فى قدرات أسامة درة على البحث ، ولم يخرج بجديد ، وأعذره تمام المعذرة ؛ فمن أين يأتى الرجل بجديد إن كان قد تلقى جديده وقديمة من الأزهر الشريف الذى لم يتعامل من قبل مع قضايا منطقية ، وانشغل مشايخه بالصراعات السياسية والمذهبية.

دعونى أُنعش إحساسكم قليلاً ، وأُرهق ضمائركم قليلا ؛ وألفت أنظاركم الغافلة إلى المُعدل الغريب الذى ينفلت به الشباب المسلم من دينه ، حتى لأنى شخصياً أعرف فى نطاق جامعتى الصغيرة 7 ملحدين معرفة شخصية ، منهم ـ والله على ما أقول شهيد ـ طالب زميل يدعى الإنتماء للفكر السلفى بينما صارحنى بشكل ودى أنه لا يؤمن بالصلاة ولا الصيام ولا الرسول ولا الملائكة لكنه يتخذ السلفية غطاءاً للحياة مع أبيه السلفى ! ؛ وما ألومهم إن فكروا فلم يجدوا من يلاقى عقولهم ، لكن أسأل شيخ الأزهر ومن معه ؛ كيف ستلاقون الله وقد غفلتم عن نصرة دينه بالعقل والمنطق والتجأتم إلى الجهل وفرض الأمر الواقع وتجاهل الآخر ؟

يا سادة إن الأمر ليس هين أو قليل الشأن ، أنتم تتعاملون مع مسلمين سابقين يومياً ، تصاحبونهم فى قاعات الدرس وتقفون معهم وتلاقونهم فى الشارع وجهاً لوجه ، والأزهر ينام مادّاً قدميه مُعلناً أن من يكفر بالله فهو مريض نفسى يجب علاجه ، وكأنى أرى اليوم الذى يتحول فيه الوطن إلى أغلبية مُلحدة تلاقى أقلية متدينة ويظل الأزهر على عنجهيته بأن من يكفر بالله مريض نفسى ، إذاً فلنعالج فولتير وبرنارد شو وأرسطو هؤلاء المُلحدين الذين لا يؤمنون بالله بديلاً عن أن نناقشهم ، لو سمعكم الفيلسوف توما الأكوينى لخر مغشياً عليه من الضحك والحزن ، إنكم تُقدمون بتجاهلكم وجهلكم أقوى دافع للخروج عن دائرتكم ودائرة دينكم ، وتقدمون صورة مُسيئة لهذا الدين ، فإما إصلاح الأزهر أو البحث عن مؤسسة بديلة تلاقى المد اللادينى .

عُمر أبوالنصر
25/12/2012

هناك تعليقان (2):

تعليقك لازم يكون مفيد، الشكر وإبداء الإعجاب أمور غير مفيدة.