الأربعاء، 12 ديسمبر 2012

إنسان يُشبهك




القطار 982 المتجه من بنى سويف لأسيوط ، لابد أن هذة العباره جعلتك تعتقد أنى سوف أتحدث كالعادة عن شئ ما يحدث داخل القطار ، أو مجموعة أشياء طبيعية أحاول أن أجمعها فى تدوينة لتوثيق الزَمَن ، لكن هذة المرة الأمر مختلف بعض الشئ .. حسناً يجب أن نقول بصراحة أن الأمر يختلف كثيراً .. اقرأ ما أكتُب عليك ..

كنت أقف بجوار باب القطار حيث أعتاد الركاب أن يتخذوا هذة المنطقة كـ "منطقة تدخين حرة" ؛ أنتظر حتى يأتى أمر الله وأفرغ من النظر الغير هادف عبر زجاج الباب لأعود إلى مقعدى ، وإذا بخطأين من أخطاء الجنس البشرى قادمين تجاهى ، طفلان قد تجردا من كل معانى الطفولة ، يحملان على أجسادهما ما يكفى لإدانة البشرية كلها بتهمة الإهمال ، يحملان صندوق ورنيش كان يجب أن يكون صندوق ألعاب .. أحدهما فى الثالثة عشرة من عمره بأقصى تقدير ، وثانيهما يصغره بسَنَتين ربما ، بيد الأكبر "كيس شيبسى" يبدو بوضوح أنه قد اكتسبه صدقةً من أحد الركاب ، وبيد الآخر "كانز كوكاكولا" ؛ وتبدو على وجوههما البائسة نظرة الفرح المقتطع من البؤس ، وكأنهما قطتين شاردتين وجدتا مأوى ..

جلسا على الأرض متلاصقين تماماً وثالثهما صندوق الورنيش ، ربما يقتسمان سعادة الوجبة الغير متوقعة من الشيبسى والكولا ، وربما يتقيان شر البرد القاتم ، كنت أقف على قدمى وهما جالسان وأتحاشى النظر إليهما كى أتقى شر الشعور بالذنب أو الإنفجار فى البكاء وسط مجموعة من المدخنين ، لكن إن حاولت الإبتعاد عن الشعور بالذنب ، فإن هذا لا يعنى أن الذنب لا يطالك ..

أورنشلك الجزمة دى ؟

هكذا قال الطفل الأكبر موجهاً فمه لى .. ورافعاً كفه الصغيرة ـ التى يبدو عليها أثر سوء التغذية ـ من أعماق كيس الشيبسى ليضعها على حذائى ..

نزلت إليهما وأنا ألين بصوتى عسى وجع القلب يختفى  .. "لأ يا حبيبى ده مش بيتورنش" .. شكراً لِيك ..

لم يرُد على ، لكن انهمك حتى النهاية فى إلتهام الشيبسى بطريقة بدائية .. وانغمس رفيقه فى شُرب الكوكاكولا .. وما هى إلا لحظات قلائل وانتهت متعتهما السريعة وعادا إلى عالم الواقع ..

حمل الصغير صندوق الورنيش واتجه ناحية الباب الفاصل بين عربات القطار كى يفعل ما يفعل ويستجدى من الركاب مسح أحذيتهم ، بينما أخوه الأكبر يجمع شتات نفسه ويحاول الإفاقة من غيبوبة متعة الشيبسى ليلحق به .. وأنا أدرت وجهى إلى خارج القطار حتى يذوب كل شئ داخلى ..

وهنا أتانى الصوت الذى يكسر القلب كسراً ، صوت الطفل الصغير يصرخ بهيستيريا لم أكن أعرف أن طفلاً فى سنه قد يملك الطاقة لها ، وكأن روحى تكسّرت قطعاً بينما أراه مُلقى على أرض القطار مُمسكاً إصبعه النازف دماً يختلط بالتراب ، ورأيت شخصاً يمسك بالباب الفاصل بين عربات القطار ، وأدركت أن هذا الباب قد دهس إصبع الصغير الذى ترك لتوه أسطوانة مليئة بالسائل الغازى البارد كان يتيه بها فرحاً رغم البرد ، وفى هذا البرد القارس يمكن أن تُدرك الألم الناتج عن دهس إصبعك بباب حديدى حتى يتدفق الدم منه ، ويمكنك أن تتخيل كم هذا الوجع على طفل لم يتجاوز الحادية عشرة ..

ووسط مجموعة "رجال" قام أحدهم بدهس إصبع طفل للتو ، كنت أتوقع أن تتكاتف الأيدى لحمل الصغير أو التخفيف عنه أو حتى إستكشاف ما حدث له ..

لكن ـ وقسماً بربّى أن هذا ما حدث ـ رأيتهم جميعاً يضحكون ما بين ساخر ومندهش ومشجع ، حتى أن الذى دهس الإصبع الصغير سار فى طريقه دونما أدنى شعور بالمسئولية بعد أن ألقى نظرة خاطفة على الجسد الصغير الذى يتلوى ألماً ، ومات شعوره بالمسئولية عندما رأى جسده الواهن وملابسه الرثة وصندوق الورنيش بجانبه .. فقط احتضنه أخوه الأكبر وهو يصيح بنبرة لن أنساها ما حييت "مالك ياخوى !" .. بينما من حوله فى حالة لامبالاة ، حتى لَتَحسب أنك فى جنازة الشعور الإنسانى ..

ذُهلت للألم ، وذُهلت لمن يتحمل الألم ، وانهزَمَت روحى أمام الحالة اللابشرية التى تحدث أمامى ، أندفعت بجسدى على الأرض أمسك يد الصغير بيدى ورأسه أضمها تجاهى ، وبحثت عن الجرح الذى وجدته نازفاً مؤلماً قد زاده البَرد ألَماً وأضافت إليه الأتربة على الإصبع الصغير ألماً مُضاعفاً وإحتمالاً أكبر لخطورة الحالة ..

تذكرت هنا ما سمعته من صديقة طالبة طب تحكى عن طفلة اضطرُّوا لبتر اصبعها بعد حالة إصابة تضاعفت بفعل التلوث بالأتربة ..

وتذكرت وجه الشاب الذى صدم إصبع الطفل ثم نظر إليه فوجده فقيراً ضعيفاً مُهملاً فأعطاه ظهره ..

هل لو كان هذا الطفل من أبناء الطبقة الراقية ، أو الطبقة "الحيّة" على أقل تقدير ، هل كان ليجرؤ أن يتركه يتلوى ألماً ؟

لو كان له أب يذود عنه ، أو دولة تحمى حقوقه ، أو تضامن مجتمعى يكفل عدم إهانة بشريته ، هل كان ليُترك هكذا ؟

أما يكفيه ذل مد الأيدى لأحذية البشر ، والتكسب من لعق التراب ، حتى نزيد عليه مع طفولته ذل الإهانة والوجع .. ؟

وببعض المناديل الورقية وزجاجة ماء ، قمت بعمل بعض الإسعافات البسيطة للطفل حتى نصل لأسيوط "التى كانت اقتربت كثيراً" فأسير معه إلى أقرب صيدلية للتغيير على الجرح ..

وكان "الرجال" حولى قد أصابهم الصمت بسهمه عندما رأونى أحاول تهدئة الطفل وتخفيف ألمه ، بينما اختفى المُجرم الذى دهس إصبعه .. ووصلنا أسيوط وبجهد جهيد أقنعته وأخوه الأكبر أن أصبعه يحتاج لعلاج من الصيدلية وأنهما لن يدفعا شيئاً ..

لم أُحاول أن أتحدث فى "الرجال" الصامتين فاقدى الشعور البشرى ، أدركت تماماً ما حالة التبلد الحسى التى وصل إليها المجتمع .. لقد فقدوا مشاعرهم للأبد ..

عُمر أبوالنصر 
13/12/2012

للتحميل فى صيغة PDF إضغط هــنــا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليقك لازم يكون مفيد، الشكر وإبداء الإعجاب أمور غير مفيدة.