العام الماضى كنت أتابع بشكل تلقائى عملية بناء مسجد بالجهود الذاتية فى مدينة بنى سويف الجديدة ، كان المشروع عبارة عن مستوصف خيرى ومسجد وقاعة مناسبات . وتم الحصول على الأرض بالتبرع من أحد رجال الأعمال ، كان معدل جمع التبرعات بطيئاً بالنسبة لمشروع كهذا لدرجة أنه استغرق حوالى 3 أعوام لينتهى ، تم إفتتاح المسجد للصلاة منذ شهرين تقريباً ، واليوم كانت أول مرة أصلى فيه الجمعة .
بدايةً يصدمك الترف ، ترف مبالغ فيه بشكل غريب ! ، بمجرد أن وطأت قدمى السجاد شعرت بأن هناك حالة غريبة من الإهدار ، تراكمت فى ذهنى الصور عن الرسول وهو يقف فوق جذع نخلة ليخطب ، ومسجد الصحابة الذى كانت أرضه مفروشة بالحصى ، وشيخ المسجد فى القرية الذى حذرنا من التشبه بالـ "نصارى" فى تزيين كنائسهم ، تخيلت رجلاً يخرج عشرة جنيهات ليضعها فى صندوق تبرعات بناء المسجد ، فيكون مصيرها أن تدفع إلى بائع الرخام مع غيرها لتساعد فى وضع نحت على حائط المسجد بأسماء الله الحسنى !. لوحات رخامية ضخمة هنا وهناك تغطى حوائط بأكملها ، عليها آيات قرآنية مكتوبة بخط النسخ لا تتماشى أبداً حتى مع المشهد الجمالى للمسجد ككُل . تذكرت مدرستى القديمة وكيف اضطررنا للتكدس فى مبنى واحد لأن المبنى الآخر آيل للسقوط .
ما كل هذا الإسراف ، ما كل هذا العته والجنون والتناقض والغباء وتخلف الإدارة الذى يعانى منه الوطن ، كيف نسمح بوضع مئات الآلاف من الجنيهات فى مكان من المفترض به أن يكون مثالاً للزهد فى الدنيا ، أين هؤلاء المتنطعين الجرابيع السلفيين من هذا الإسراف والخروج عن سنة الرسول ، أم أننا لن نسمع أصواتهم تلك أنكر الأصوات إلا فى الفتن الطائفية والكذب والزور ، كل جنية تم وضع فى مظاهر البذخ والجنون يجب أن يُسترجع كاملاً ويتم توجيهه بحيث يتماشى على الأقل مع إنسانيتنا .
يُقال أن العرب قديماً عندما وجدوا صنمهم الذى يعبدون "هُبَل" قد كُسرت ذراعه ، وضعوا له ذراعاً من ذهب ، حدث هذا بينما كان الفقراء يتضورون جوعاً والقبائل تأكل لحم بعضها . وما زالت فينا الجاهلية ، لم نستطع أن نُدرك الفرق بين عبادة الأصنام التى تحتاج إلى مظاهر تقديسية واضحة وعبادة الله ، لم نفهم الفرق بين العبادة التى تنحدر بنا إلى مجرد حمقى مدفوعين بغريزة التقديس إلى بشر مُحترمين لهم عقول يُدركون بها ، لم نستطع أن نتخلص من العبادة الخارجية المظهرية ونسلك طريقنا إلى تلك التى تُنقّى الروح .
متى بدأت هذة الحالة المرضية عند المسلمين ؟ .. لم تحدث فى عصر الخلفاء الراشدين ، لكن فى عصور الإضمحلال الدينى وسيطر الفقهاء والوعاظ وتراجع دور المفكرين على حساب مواكب الخلفاء ، تأثر الخلفاء بالفرس فى طقوسهم وأدخلوا منها إلى الإسلام ما استطاعوا ، وكان ممّا استطاعوا أن استنزفوا موارد الدولة ووضعوها فى تذهيب حوائط المساجد ، وكان مما استطاعوا أن جعلوا فكرة الله فى عقول العامة مقرونة بالمظاهر الفجة القبيحة من الإهدار والسلطوية حتى أصبح هناك تيار فكرى يرفض تماماً أى إعتراض حتى لو تم تفريغ كل خزينة الدولة , وتفريغ كل جيوب المواطنين الطامعين فى الجنة ، من أجل بناء مسجد .
"ما يفعل الله بعذابكم" ، "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم" ، "إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين" ؛ هذة آيات لم تكن موجودة على حوائط المسجد ، ربما لأنهم يدركون تماماً كم تتناقض مع شراهة الإسراف . تخيل كم مسجداً بسيطاً كان يمكن إنشاءه فى القرى الفقيرة لو تم توفير الأموال التى أُلقيت هباءاً فى صناعة الرخام الفاخر . تخيل كم تلميذاً فقيراً يمكن توفير تعليم محترم له , أو تخيل كم جائع / عارى يمكن مساعدته ! ، أوقفوا هذا الترف .
الملاك الجريح ـ هوجو سيمبيرج ـ 1903 ـ من مدونة لوحات عالمية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تعليقك لازم يكون مفيد، الشكر وإبداء الإعجاب أمور غير مفيدة.