أسلوب ربط الإتجاه بالعقيدة بسيط جداً وقوى جداً ، الإتجاه الفكرى هو رأيك فى موضوع ما ، أو ميولك الفكرية تجاه هذا الموضوع ، مثلاً تشجيعك لفريق رياضى هو إتجاه فكرى ، ميولك الأيدلوجية سواءاً أكُنت ليبرالي أو إشتراكي أو غير ذالك ، هى إتجاهات فكرية ، وهذة الإتجاهات قابلة للتغيير بضخ معطيات عقلية جديدة فى الدماغ ، لكن العقيدة هى موقف فكرى لا يتعرض للتغيير على المدى القريب ، مثل العقيدة الدينية أو العقيدة الوطنية ، فأيّاً كان لا يمكن لأى شخص أن يتحول من دين لآخر بسهولة ، أو يتحول من الإنتماء لوطن ما إلى آخر بسهولة ، ذالك أن العقيدة غالباً صلبة وقوية ، وتتلخص فكرة تيار الإسلام السياسى فى ربط الإتجاه الفكرى الذى تُفترض به المرونة ، ربطه بالإتجاه العقائدى الذى هو صلب ، وبالتالى يترسخ فى وجدان الشخص أن إنتمائه السياسى ما هو إلا إنتماء دينى أيضاً ، وأنه يخرج فى المظاهرات فى سبيل الله ، ويضع صوته الإنتخابى فى سبيل الله ، لقد تكونت الفكرة وتداخل الإتجاه مع العقيدة وانتهى الأمر ، ولا بديل عن التوعية حتى يتم فك هذا الإزدواج والتخلص من حالة تشويه الوعى التى سقط فيها الفرد .
هذة مقدمة رأيت أن لابد منها حتى يعى القارئ تفسير الحماس الجارف من أعضاء الجماعات الإسلامية لفكرتهم ـ عقيدتهم . وأُريد أن أنتقل منها إلى شكل آخر أكثر تخصيصاً ؛ الأحزاب السياسية ذات الإتجاه النصف سياسى ـ نصف مدنى ، مثل حزب مصر القوية وحزب الوسط ، هذة الأحزاب التى لعبت على الوترين كليهما ، فحاول مؤسسوها أن يجعلوها مُقنعة وهى تظهر بالشكل المدنى ، لكنهم لم يستطيعوا إخفاء الهوية الإسلامـ ـ سياسية كثيراً ، عن حزب الوسط بشكل أكثر تحديداً أتحدّث . الأسبوع الماضى ، وبدافع من الفضول أردت أن أحضر إجتماع للتعريف بحزب الوسط فى جامعة النهضة NUB ، وقررت أن أستمع ولا أتحدث أبداً لأنى ربما أجد نفسى مندفعاً للحديث عن المغالطات التى تحدث عادةً فى تقديم مثل هذة الأحزاب ، وبالفعل نجحت فى ضبط النفس حتى لحظة معيّنة سمعت فيها المُتحدّث ـ وهو أخ مُثقّف من قيادات شباب الوَسَط ـ يتحدث عن المرجعية الإسلامية للحزب ، وكيف أنها مرجعية من "الحضارة" الإسلامية . ولا أدرى لماذا فى وطن كـ مصر التى يُقال أن لها حضارة تمتد لآلاف السنين ، لماذا نبحث عن "حضارة" أُخرى ؟ ، وليتها كانت حضارة متماسكة لها قواعد واضحة ، لكنها حضارة بدوية لا تتجاوز بضع مئات من السنين .
وهنا يَجب أن نُفرّق بين شيئين فى غاية الأهمية ، الحضارة الإسلامية والدين الإسلامى ، "الدين" الإسلامى عند مُعتنقيه نَزَل من السماء ، أى أنه بالكامل صناعة إلاهية مُقدّسة ، لكن "الحضارة" الإسلامية ـ وأى حضارة ـ هى صناعة بشرية ، لذالك فإن إسباغ القدسية على الحضارة الإسلامية هو أيضاً أحد أشكال ربط الإتجاه الفكرى بالعقيدة ، إتجاهك الفكرى نحو إحترام الحضارة لا يجب أن يختلط بإتجاهك العقائدى . هذة واحدة ؛ الثانية هى الفرق بين دخول الإسلام مصر ودخول جيش المسلمين مصر ، عندما قرر عمرو بن العاص أن يدخُل بجيش المسلمين أرض مصر ، كانت الفكرة ـ المُعلَنَة ـ هى نشر الإسلام ، لكن الإسلام كان سينتشر بالفعل حتى بدون حركة أى جيش تجاه أى دولة ، ودليل ذالك بلاد كـ إندونيسيا وماليزيا التى لم يطأ أرضها جندى مُقاتل واحد يدعوها إلى الإسلام لكنها تحولت إلى دول إسلامية ، هذا رغم البعد الجغرافى الواضح بين هذة البلدان وبين مركز الإسلام فى شبه الجزيرة العربية ، وبالقياس على مصر نرى أن مصر بموقعها الملاصق لمهد الدين كانت ستتحول إلى الإسلام بشكل أو بآخر .
ولذالك فإن دخول جيش عمرو بن العاص إلى مصر وضمّها إلى منظومة ما يُسمّى "الحضارة" الإسلامية ، ليس له علاقة بدخول الإسلام إلى قلوب المصريين وإنضمامهم إلى "الدين" الإسلامى ، لكن الشعرة الفاصلة بين الحضارة كإتجاه فكرى وجهد بشرى والدين كعقيدة وفكرة إلاهية قد قطعها تيار الإسلام السياسى وأحزابه عن طريق عملية منظمة لتشويه الوعى العام لدى الشباب المتحمّس .
والغريب أن دخول جيش ابن العاص لمصر تصحبه دوماً هالة غريبة من التقديس ، حتى يُخيّل للمرء أنها إحدى الخطوات التى أمر بها الله من فوق سبع سماوات ، ويصحب هذا التقديس النفسى تقديس لفظى ، فيسميها المصريون "الفتح الإسلامى" ، وهذة التسمية بقدر ما هى ليست صحيحة بقدر ما هى مُهينة للمصريين وللإسلام على حد سواء ، إن كانت جيوش بن العاص هى التى أدخلت الإسلام إلى مصر فهذا يعنى أن الشعب المصرى أقل وعياً من الشعب الماليزى أو الإندونيسى أو من ملايين الهنود الذين دخلوا فى دين الله بدون جيش فاتح ، وأنهم يحتاجون من يقودهم إلى الإسلام ، وهى كذالك إهانة للإسلام أن نقول أن إسلام المصريين جاء بالجيوش والحروب ، وكأن الإسلام لم يكن ليدخل مصر بدون هذا الغزو العسكرى ، أعتقد أن لا ، مصر كانت ستتحول للإسلام عاجلاً أو آجلاً ، والغزو العربى لها كان مجرد توسيع للإمبراطورية العسكرية التى بدأها القادة العسكريون الذين أسلموا لاحقاً مثل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص ، حيث ساهموا فى تحويل وجهة الجيوش الإسلامية من تأمين حدود الدولة الناشئة إلى التوسع وغزو الأراضى ، ومصطلح الغزو هنا ليس من عندى ، وإنما هو مصطلح قديم ودارج واستخدمه الرسول فى الإشارة إلى حروبه .
نعود إلى ما كُنّا عليه ، الحديث عن "الحضارة" الإسلامية كمرجعية سياسية ، أو خط فكرى نعمل عليه من أجل النهضة ، وفى حديثى هذا لا أُكن أى قدسية لهذة الحضارة المُدّعاة ، لأنه ـ كما أشرت من قبل ـ هذة حضارة من صنع البشر وقابلة للنقد بل والنقض إن لزم الأمر ، فيجب عليك ـ كقارئ ـ أن لا تُصاب بالفزع من حقيقة تاريخ الدول الإسلامية ، لأن الإسلام ليس هو الدولة العباسية ، ولا الدولة الأموية ولا الطولونية ولا البويهية ولا الفاطمية ، كلها إمبراطوريات متعاقبة شكّلت فى مجملها المختلط ما يُسمى الحضارة الإسلامية ، وهذة الدوَل ليست مقدسة ، وبالتالى تفنيد عيوبها ليس له أى صلة بالإسلام من قريب أو بعيد ، والإبتعاد عنها كمرجع فكرى ليس له علاقة بالإبتعاد عن الإسلام كمرجع عقائدى "راجع الفقرة الأولى" .
وعندما نقول أن الدولة الإسلامية مرجع حضارى ، فإن نسبة خطأ الجملة تكون ثابتة فى العالم بأجمعه ، وتزيد فى مصر ، لأن مصر بالذات لا تجوز فيها مثل هذة الجملة ، حتى لو افترضنا ـ جدلاً ـ أنها صحيحة ـ جدلاً ـ . فإن الدولة المصرية لديها مرجع حضارى متكامل يجعل الإستعانة بأى وافد خارجى هو نوع من العبث ، عن مرجعية الحضارة الفرعونية أتحدث .
أخرج عن إطار الصورة قليلاً وانظر للأمر من الخارج ، ستجد أن وجودنا فى قلب الحركة الفكرية تشوش رؤيتنا للأمر ، لكنه واضح جداً ، نحن شعب له حضارة ضاربة فى عمق التاريخ بـآلاف السنين ، شعب ليس توسعى ولا استعمارى ، اهتم ملوك الفراعنه على مر العصور برخاء الشعب وتقدمه ، ورعاية العلوم والفنون والحكمة ، حاولوا صنع علاقات طيبة مع الشعوب العدائية المجاورة لهم ، انشغلوا بصد هجمات الهمج والرعاع والتوسعيين ، أغارت علينا الجيوش الإستعمارية وتعاقبت الدول . حتى وصلنا إلى ما نحن عليه من إنحطاط الدولة ، تراءت أمام أعيننا فكرة إعادة بناء الوطن ، فخرج بعض المتنطعين ليقولوا لنا "عليكم بمرجعية الحضارة الإسلامية" ، وكأننا شعبٌ بلا حضارة حتى نستقى حضارتنا من أبوالعباس السفاح أو عبدالملك بن مروان .
وأكثر هذة الإختلافات جوهريةً هو فكرة التوسع ، أساس فكرة الحضارة الإسلامية هو التوسع ، وأساس فكرة الحضارة المصرية هو الإستقرار وبناء الدولة ، ربما تتوارد إلى ذهن القارئ عبارة "هذا الكاتب لا يريد الحضارة الإسلامية التى حكمت الأرض شرقاً وغرباً " ، أنا مُدرك تماماً أنها حكمت الأرض شرقاً وغرباً ، ولهذا بالتحديد لا يجب أن نجعلها قدوتنا ، لأنها حضارة تبنى إزدهارها على التوسع فى الأراضى المجاورة ، وأعيد كلامى بأنه لو قلنا أن هذا التوسع هو سبب إنتشار الإسلام فإننا نُهين الإسلام ، وإنما هذة التوسعات كانت لتحقيق المجد لدولة معينة عباسية كانت أو أموية ، وهى توسعات قام بها جنود فى جيوش السلطان ولم يقم بها ملائكة منزلون ، هى توسعات بشرية .
راقب مثلاً القصة الشهيرة فى الأثر ، التى تُروى عن هارون الرشيد رمز الدولة العباسية الأولى ، ودرة الحضارة الإسلامية وهو يقول مُخاطباً السحابة "أمطرى مائك أين شئتِ فسيأتينى خراجك" ، هو يتباهى بأن أرض دولته كبيرة ومتسعة وأنه يستطيع جباية الخراج عن ماء السحاب فى أى مكان ، بينما فى مصر الفرعونية ، صدر مرسوم من الفرعون بعد طرد الهكسوس بأن نساء مصر الحرائر أصبحت لديهن الحرية الآن على كشف آذانهن "علامة على الطمأنينة" بعد أن طردنا الغزاة ، كانت مصر وطناً لا يطمح لاحتلال وطن آخر . وبالمناسبة البحتة ؛ يُقال أن الهكسوس هم قومٌ من العرب الذين احتلوا مصر قديماً وكان ملكهم يدعى الوليد بن الريان وسمى باسمه وادى الريان ، ويمكنك إستقصاء هذة المعلومة .
إذاً فالحضارة الإسلامية توسعية ، والحضارة المصرية قائمة على الإستقرار والأمن والرفاهية ، كانت عصور القوّة فى مصر الفرعونية تُقاس بالمبانى والمعابد والأهرامات ، لكن يمكنك أن تسأل أيّا من دعاة المرجعية الحضارية الإسلامية عن ما يراه من أوجه القوة والإزدهار فى الدولة الإسلامية ، سيحدثك عن جيوش تغزو وممالك تسقط وقلاع تُبنى ، ولا يخفى على أى شخص متوسط الذكاء أن يُدرك ما يلائم العصر ، التوسع والإحتلال والتعدى ، أم الحضارة القائمة على البناء والقوة والأمن ، وربما يدفع بعض الباحثين عن الثغرات بـ "أن هذا كان من الماضى لكن ما سنطبقه من الحضارة الإسلامية لن يتضمن التوسع العسكرى" ، أقول لهم : يجب أن توجهوا حديثكم هذا لفضيلة الشيخ بن باز رحمه الله ، أحد أقطاب الفكر السلفى وصاحب مدرسة ينتمى إليها فكرياً كثير من "المفكرين" الإسلاميين ، وهو نفسه الذى قال أن الجهاد ليس للدفاع فقط ، وأكد على هذة النقطة وأسهب فيها (هــنــا) ، ولو افترضنا أنكم إصلاحيين جدد وإسلامين معتدلين (!) وأصحاب مشروع إستقرار وأنكم سترجعون للحضارة الإسلامية بدون أخذ فكرة التوسع العسكرى" ضاربين بالمنطق عرض الحائط" ، فإنكم بهذا الشكل لن تجدوا شيئاً لتأخذوا منهُ شيئاً ، ببساطة ؛ كل الحضارة قامت على الجيوش وقعدت عليها ، كلما أصبح الجيش قويّاً أصبحت الدولة قوية ، وكلما ضعف الجيش انهارت الدولة ، ويخرج جيش من المنشقين أقوى من جيش الحاكم ليصبح الحاكم مخلوعاً والمنشق حاكماً ، كما حدث مع جيوش العباسيين وآخر خليفة أموى "عبدالرحمن الداخل" ، كانت دولة تقوم على الجيش وتوسعاته ولو حاولت نزع هذة الصفة لن تجد شيئاً ، ولو قلت إنجازات ، سأقول لك أين ؟ .. أين الأثر الباقى الذى نستطيع أن نقول بفخر "هذا أثر من الدولة الإسلامية" ، اللهم إلا بعض الكتب التى سلمت من السلب والحرق ، وسلم مؤلفوها من التكفير والإضطهاد والقتل بأمر الحاكم ، ويمكنك للمزيد مراجعة ما كتبته سابقاً هــنـــا .
إذاً فنحن بين خيارين ، ومرجعيتين ، واحدتهما هى أصلنا وتاريخنا الذى جربناه فكُنّا أقوى دولة فى التاريخ ، والثانية نموذج مشوّه يضج بالدماء وأصوات القتل والغزو ، الأولى جعلتنا متحضرين والثانية جعلتنا مشوهين ، ولنا حق الإختيار ، ولنا شرف النضال حتى لا يتحول وطننا إلى نسخة من دول فاشلة ، وحتى لا نتحول لشعب فاشل ، ويحكمنا مجموعة من اللاشئ ، المستندين إلى حضارات من اللاشئ ، حافظوا على مصر ذات الهويّة الفرعونية . ولا تخشوا على دينكم ، واقع الأمر يؤكد أن طريقة الحكم لا تؤثر على تدينك ولا تنزعه منك ، وواقع الأمر يحكى قصص الشيوخ الذين يعيشون حياتهم فى أوروبا ، والذين يحصلون على جنسيات الدول الكافرة ، لكن الإيمان فى القلب لا فى جواز السفر ، والدين ليس خانة فى البطاقة وليس صوتاً إنتخابياً ، الدين عقيدة لكن مرجعيتك الحضارية توجّه فكرى ، كُن مرناً ولا تتعرض للخداع ، اقرأ وابحث عن تاريخ وطنك كى تعلم من يستحق أن يكون مرجعية ، لو لم أخرج من كل كلماتى هذة إلا أن جعلت قارئاً واحداً يبحث عن الحضارة الفرعونية ويقتنع بها كمرجع حضارى نستمد منه تطورنا القادم ، لكفى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تعليقك لازم يكون مفيد، الشكر وإبداء الإعجاب أمور غير مفيدة.