أعتقد أن كل من ولدوا فى القرن العشرين وما بعده هم
الأكثر حظاً فى تاريخ البشرية ، وبنظرة أكثر دقة يمكننا القول أنهم سيعيشون
أعماراً مضاعفة ، ويمكنهم أن يكتسبوا خبرات عشرة أجيال على الأقل من تلك التى سبقت
هذا القرن ، ذالك لأن معدل تسابق التطور الفكرى والتقنى والأدبى للجنس البشرى قد
تضاعف بهذة النسبة أو أكثر فى القرنين العشرين والواحد والعشرين ، فإذا كنت من
مواليد عام 1993 مثلى فإن وصولك لعام 2013 لا يعنى فقط عشرين عاماً من البشرية ،
لكن يعنى أكثر من مائة وخمسين ألف عام ، لأن هذة الأعوام العشرين قد حدثت بها من
التغيرات ما يفوق كل الذى حدث على الكوكب منذ ظهور حواء الميتوكوندريا ، أو ظهور
الأصل المشترك الذى انبثقت عنه كل السلالة البشرية .
وحواء الميتوكوندريا هى المرأة التى استطاعت توريث
جيناتها إلى كل البشر الحاليين ، ولا يعنى هذا أنها "حواء الدين" التى
رافقت آدم فى قصة الخلق الشهيرة ، فقد كان لها أقران لكنهم لم يستطيعوا توريث
جيناتهم لأسباب ما ، ويقدر العلماء العصر التى عاشت فيه هذة الجدة من 150 إلى 200
ألف عام مضت ( فيديو لتوضيح فكرة حواء الميتوكوندريا اضغط هــنــا ) ، ومنذ هذة الفترة لم يحدث أن تطورت البشرية بنفس الكم والكيف الذى
حدث فى العشرين عاماً الماضية فقط ، ويمكنك تخيل أجيال بأكملها مرّت على الكوكب
دون أى اكتشاف جديد أو معرفة علمية مُضافة ، لكن لا يمكنك أن تتخيل فى العصر
الحالى يوماً يمُر دون معرفة علمية مضافة أو إكتشاف جديد . كل هذا حدث بسبب الفلسفة
.
وإن كان الكثيرون يُرجعون التطور الحادث فى القرنين
العشرين والواحد والعشرين إلى كوكبة من العلماء على رأسهم أينشتين ونيوتن مثلاً ،
لكن واقع الأمر أن هذة الطفرة البشرية لم تقم إلا على أكتاف بوذا وكونفوشيوس
وأفلاطون وأبيقور ونيتشه والمسيح ، ذالك لأن هؤلاء الفلاسفة كانوا هم حجر الزاوية
والإنطلاقة الفارقة ما بين عصرين ، عصر ما قبل الفلسفة ، وعصر ما بعدها .
ولتوضيح هذة النقطة يجب أن نتناول الزمن ؛ وعلاقته
بتسارع الأحداث ، وعلاقة الأحداث بوجود الفلاسفة ، بدايةُ لا يُمكن الجزم بعدم
وجود فلاسفة فى عصور ما قبل تدوين الحضارة ، وفى نفس الوقت لا يمكن إفتراض وجود
حضارة بدون فكر ناضج ، هذا يضعنا أمام معضلة تستدعى وضع إفتراضات ، فإما أن العقل
البشرى تطوّر بسرعة خلال بضعة آلاف من الأعوام فقط ليصبح مؤهلاً لإستيعاب الفلسفة
وقبلها لم تكن موجودة ولم تكن هناك حضارة ، وإما أن الفلسفة كانت موجودة ،
والحضارات كانت موجودة . لكن كارثة ما أو ضياع ما أدى إلى إندثار هذة الحضارات فلم
تصل إلينا معرفة كافية بما كان ، أو ربما تصادم الفكر الفلسفى البنّاء الثائر بفكر
دينى ما راكد ورجعى استطاع كبح جماحه ، ، مما أدى إلى استمرارية عصور ما قبل
التاريخ لفترات طويلة جداً ، وبمجرد أن استطاع الفكر الفلسفى العبور من مأزق
الرجعية ، بدأ التاريخ .
وأنا شخصيّاً أميل إلى هذا التفسير ، ذالك لأن الفلاسفة
كانوا دوماً فى صدام دائم مع الدين وأتباعه . لذالك سأفترض أن عصور ما قبل التاريخ
هى عصور ما قبل الفلسفة ، والعصور التاريخية هى عصور فلسفية . وإمعاناً فى الخيال
، ولأن هذة مدوّنتى أكتب فيها ما أريد متحديّاً أى منطق ، سأطرح فكرة التقويم
الفلسفى كبديل للتقويمات الشمسية والقمرية فى حساب الزمن ، وفكرته بسيطة جداً ،
يمكننا إعتبار الفترة الزمنية التى تستحدث فيها البشرية عشرة أفكار فلسفية هامة
عاماً فلسفياً ، وهذا العام يُقسّم إلى أسماء أشخاص مؤثرينكشهور ، فنقول مثلاً أن أول
عام فلسفى يبدأ بشهر إيمحوتب ، وهكذا ، وربما نلجأ إلى المؤرخين لضبط معايير هذا
التقويم وترتيب أجزائه . لكن ماذا عن عصورما قبل التاريخ ؟ .. كل هذة العصور كانت خاوية من أى تقدم بشرى ،
وطبقاً للتفسير الذى تميل إليه نفسى ؛ كانت السيطرة الدينية واضحة على العقل
البشرى ، لذالك سنسمى هذة العصور جميعاً الشهر الأسود ، لأنها ورغم إمتدادها على
حيز كبير من الأعوام الشمسية ، إلا أنها لا تتعدى فى عمرها الفلسفى شهر واحد ،
ذالك أن الشهر فى التقويم الفلسفى هو مدة حدوث حدث ما ؛ هذا الحدث كان عدم وجود
فلاسفة ، لذالك فقد كان شهراً أسوداً .
وهذا التقويم ليس له أى علاقة بالتقويم الشمسى ، فمثلاً
قد تمر عشرة أعوام شمسية نعتبرها شهراً واحداً فلسفيّاً ، لأن هذة الأعوام لم تشهد
سوى حدث واحد ، وفى العصر الحالى يمكن إعتبار كل يوم هو شهر فلسفى بل وربما عام
كامل ، لذالك فإننا لسنا فقط فى عصر التسارع التقنى والأدبى ، بل إننا ـ فلسفيّاً
ـ فى عصر التسارع الزمنى ، وعليه فإن حياتك لمدة عشرين عام يمكن إعتبارها مائة ألف
عام ، أو مائتى ألف عام حسب إلمامك الفكرى بما يدور حولك .
لا عليك ؛ لا تستمع لهذة الهرتلات عن التسارع الزمنى
وعصور الفلسفة ، يمكنك أن تنسى كل ما سبق فقد كان مقدمةٌ غير مهمة لشئ ما أود
الحديث عنه ، وهو القتل . منذ قليل كنت أشاهد مسرحية "الهمجى" للفنان
المصرى محمد صبحى ، واستوقفتنى أحد المشاهد واستفزت أصابعى للكتابة ، عندما قال
الراوى فى المسرحية "ارتكب الإنسان أبشع جرائمه ؛ القتل" . هل يستحق
القتل هذة الوصمة التى نلصقه بها دائماً ، هل هو فعلأً أبشع الجرائم البشريّة على
الإطلاق ، أم أن هناك وجهة نظر أخرى يمكننا أن نتناول هذا الفعل من ناحيتها ، يبدو
واضحاً لك أنى أريد مناقشة هذة الوجهة الأخرى وإلا ما كنت أرهقت نفسى بالكتابة
أصلاً .
أعتقد أن التعريف الأمثل للقتل ليس هو مجرد إزهاق حياة
كائن آخر ، ربما هو "إستدعاء الموت" ؛ أو تحقيق النهاية الطبيعية
للإنسان ، وهو يختلف عن الموت الطبيعى فى أنه يكون متوقعا ومعدا له من قبل إنسان
آخر ، إذا فهذة الحالة فضلاً عن أنها إرضاء لنداء الطبيعة بإعادة جسد الإنسان إلى
الأرض ، فإنها أيضاً إرضاء لنداء الشهوة البشرية ، فضلاَ عن المكاسب التى قد تكون
كثيرة وتعود على القاتل من جراء هذا الفعل ، ولا أدرى لماذا أعتبر رفض المقتول
الإستسلام للقاتل هو نوع من الأنانية المفرطة ، أشعر بنفس إحساسى حيال الشخص الذى
يرفض التبرع بأجزاء من جسده بعد موته ، حسناً إذا كانت حياتك ستنتهى بشكل أو بآخر
، اليوم أو غداً أو بعد ألفى عام ، لماذا لا تسمح لشخص ما ـ يريد قتلك بشدة ـ أن
يُحقق ما يريده فتكون بذالك أرضيت بداخله الشهوة البشرية ، وتتقبل نهايتك بكل سلام
وسلاسة وأريحيه ، فقط تريح جسدك وربما تهمس فى أذن قاتلك بهدوء قائلاً
"استمتع" .
الأمر ليس كما يبدو عليه ، حتى كاتب هذة الكلمات لا
يمكنه تنفيذ هذة الهرتلة ، وإن كنت قد عصرت على نفسك برتقالتين وتحمّلت منى الحديث
عن التقويم الفلسفى والإستغناء عن التقويم الشمسى ، فلا أعتقد أن كل موالح الكوكب
قد تكفى لجعل أى إنسان يتحمل أن يُقتل متمثلأً نصيحة كاتب أحمق . ولا حتى هذا
الكاتب الأحمق قد يفعل ذالك ، لكن دعنا نتناقش ، على كل حال فأنت تقرأ لى الآن
وهذا يعنى أن لديك الوقت الكافى الذى تريد إضاعته . إذاَ قُل لى ، ماذا لو كُنت
قُتلت الشهر الماضى ، ألم يكن هذا ليثلج قلبك الآن ، ما يخيفنا فى الموت ليس ما
بعده ، جميعنا مدركون فى لاوعينا الكامن حقيقة ما بعد الموت وفراغيته مهما حاولنا
تغطية هذا الإدراك بالثوابت الدينية ، لكن المخيف فى الموت حقاً هو أنه مجهول ،
ارجع إلى طفولتك وحاول إحصاء المرات التى رفعت فيها كفك للسماء متضرعاً أن يمنحك
الله حياتين ، لتقتل نفسك فى أحدهما فتذهب إلى هذا المجهول وتستكشفه ثم تعود لتعيش
حياتك الأخرى ، ثم استبد بك الطمع والخيال ، فقلت " لو كانت لى حياتين لما
قتلت نفسى فى أحدهما ، لكن سأعيشهما بشكل كامل" ، لقد كنّا أطفالاً يا صديقى
، الآن أنت فيلسوف كبير ما شاء الله عليك ، ويمكنك أن تعى الأمور وتدركها بعمق ،
ولا يخفى على حصافتك أن تستشف من أفكارك الطفولية أن ما بعد الموت كان مجهولاً
بالنسبة لك ، وما تم تلقينه من دين وأفكار دينية لم يستطيعا تغطية هذا المجهول أو
سد ثغراته ، ذالك لأنه منذ بداية التقويم الفلسفى بدأ العقل البشرى يتطور بإنتظام
فى إتجاه مضاد للفكر الدينى ، حتى وصل لهذة القفزات الفلسفية التى نعيشها ، والتى
أصبح فيها الفكر الدينى غير كافياً لإقناع الأطفال وسد فضولهم تجاه الرغبة فى
إستكشاف العالم الآخر .
نعود إلى ما كنا عليه ، عن القتل ؛ قليلون هم الذين
يمكنهم التسامح مع من قتلوا أقارب لهم ، وفى قريتى بأسيوط لا يوجد من يتسامح أصلاً
، لكن هل لو عاد المقتول نفسه ، هل كان سينادى بالثأر ؟ .. ربما لا ، لا يعنى
المقتول بالقاتل ولا يكرهه ، الثأر مسألة شخصية بحتة بين القاتل وصاحب الثأر ليس
لها علاقة بشخص المقتول أو مشاعره أو رأيه . وهى مسألة مغرقة فى أنانيتها أيضاً ،
مغرقة فى إنسانيتها ، وهذا يجرنا إلى نقطة فرعية وهى علاقة الإنسانية بالمشاعر
السلبية مثل الأنانية والحقد ، لقدتم حصر مصطلح "الإنسانية" فى بعض
الجيتوهات المثالية التى تختزل البحر فى زجاجة ويسكى ، الإنسانية يا صديقى هى كل
المشاعر التى يختص بها الإنسان ويستطيع التعبير عنها وتقمصها وحملها بكل مثالية
ووضوح ، ولا يمكن إضفاء صفات الخير أو الشر المُطلقَين على هذة المشاعر ، ومنها
"الحقد ـ الأنانية ـ الحب ـ الكراهية ـ الصداقة كأحد أشكال الحب ـ التواضع ـ
الغرور" ، لكن يمكن بشكل شخصى ونسبى جداً وضع عباءة الخير أو الشر على هذة
المسميات . نعود إلى الثأر من القتل فنقول أنه مسألة مغرقة فى أنانيتها وبالتالى
فى إنسانيتها ، لأن الذى يفعلها يهدف إلى إرضاء دوافع شخصية بحتة لها أسسها
السيكولوجية ودوافعها من الضغوط الإجتماعية المتمثلة فى الصعيد بالضغوط القبلية ،
لكنها ليست أبداً مسألة متعلقة بدم المقتول أو راحته فى قبره أو غير ذالك من
التعبيرات الكلاسيكية المجوفة . لذالك فإن ممارسة القتل لو تم إخراج كل الأطراف
منها وتمثيلها فى قاتل ومقتول فقط ، وإستبعاد جانب الثأر المجتمعى وجانب ما يسمى
عدالة القانون ، سنجد أنه شئ لذيذ جداً ، تقتلنى فأرتاح ، وترضى أنت شهوتك الإنتقامية .
وفى الغالب تصاحب حالات إرضاء الشهوات عند الأشخاص الغير
مكتملى النضج أعراض سلبية من الشعور بالذنب ، وليس من السهل أن نجد الشخص الناضج
بما فيه الكفاية بحيث يقتلك ثم يجلس بجوار جثتك ليشرب كوباً من الشاى المركّز ، أو
يقف تحت الدش مُكرراً أحد مقاطع أغنية "سلملى عليه" لفيروز ، ويستطيع أن
يخمد فى نفسه الشعور البدائى بالذنب مقتنعاً تماماً أنه لم يوقف البشرية عن التقدم
وإنما أراح أحد أفرادها وأرضى فى نفس الوقت شهوته الإنتقامية ، القتل كالجنس
والماء والهواء . وأيضاً لن نجد الشخص الذى يستقبل قاتله بمصافحة متحضرة ويدعوه
للإنتظار قليلاً حتى يُنهى مطالعة جرائد الصباح ويستعد لأن يصبح مقتولاً .
سوف أناقض نفسى
قليلاً ـ أعتبرنى محمد مرسى يا أخى ـ وأحاول تقديم نقد منطقى لهذا التصوّر
اللامنطقى الذى عرضته فى مسألة القتل ، لو وصلنا لهذا العالم اليوتوبى من القتلى
والقاتلين ، فإننا ربما نكون بذالك نوقف فعلاً مسيرة البشرية عن التقدم ، ونوافق
على إرضاء شهوة القتل فى مقابل إثارة مشاعر أخرى قد تكون آثارها مدمرة للحالة
النفسية لأى إنسان ، ولو انتشرت فسوف تنشر معها هذة المشاعر السلبية بشكل عام ،
مثلاً سيؤدى إنتشار القتل إلى عدم الشعور بالأمان ، وهذا ما قد يؤدى إلى مرحلة لا
تُطاق من العبثية ، وربما سأخسر نصف قرّائى أو أكثر لأنهم إما تعرضوا للقتل أو
مشغولين عن القراءة بالتحضير لجنازات أقاربهم ، أو ربما يفكّرون فى شخص ما ليقتلوه
.
عزيزى القارئ ، أنا أهرتل لا أكثر ، وهذة الهرتلات يمكنك
أن تقرأها من أى جانب ؛ اعتبرها فن تجريدى يا أخى . لكن ربما نحن فى عصر الهرتلة
بالفعل ، عصر القتل متعدد الأشكال ، عصر الإقصائية والتشكيك والقلق ، دعنا نحاول
أن نستكشف عقولنا فربما هى الحل . الكتابة أصلاً هى محاولة لإستكشاف الذات ، ومنح
فرصة للآخرين كى يطّلعوا على هذة الذات .
إلياس زيات ـ بورتريه لـ جبران خليل جبران
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تعليقك لازم يكون مفيد، الشكر وإبداء الإعجاب أمور غير مفيدة.