ليس من العيب أن تولد وفى فمك ملعقة من ذهب ، ليس عيباً على الإطلاق كما أنها ليست ميزة ، لكن العيب والعار أن تولد وأنت تشعر بالتفوق على هؤلاء الذين لم يجدوا فى أفواههم حتى ملاعق خشبية .
أكتب عن ديكتاتورية المولد وديكتاتورية النشأة ، عن التفوق الطبقى الذى يقتلع القيم الإنسانية من جذورها ، ولكى نكون واضحين لا تتوقع منى أن أكون محايداً ، طبيعى أن أكون متحيز لطبقتى ، أنا مع الفقراء أينما وجدوا ومع المضطهدين أينما أقاموا ، لا بديل عن الإنحياز للطبقة التى تطعمك وتجعلك ترتدى الملابس الفاخرة ، بصراحة أنا متحيز ، تخلى قليلاً عن فلسفتك التى تعلمتها داخل غرف مكيفة عن ضرورة التواصل بين الطبقات ، بينما كنت تشترى عطر هوجو كان هناك من يعيشون داخل غرف صفيح ، عفواً لا يمكننى إلا أن أتحيز وأنفى واقع التواصل بين الطبقات ، لعلى بالإعتراف أصنع شرخاً فى الجدار الأسمنتى بين الطبقات الإجتماعية .
الثأر؛ هل تعرف لماذا تنتشر عادة الثأر فى الصعيد ؟
ربما لأن أهل الصعيد متخلفين همجيين لم يتخرجوا من مدارس بريطانية أو أمريكية ، ولم تهذب نفوسهم جلسة شاعرية فى كافية ستاربكس ، ولم تتلون مشاعرهم بألوان الطيف فى حفلات منير ، حسناً هذا صحيح نسبياً ، لكن هل تعرف لماذا هم هكذا ؟
بوضوح لأن الفكرة قد تكونت عنهم وأصبحت أمر واقع ، ولا بديل عن صعيد متخلف همجى رجعى حتى يضمن للقاهرة التفوق النوعى ، ويصبح لدى الإنسان القاهرى ما يفخر به ، لا يمكن أن يحدث تطور بالصعيد لأن هذا لا يتوافق والدوافع السيكولوجية التى تحث صناع القرار على بقاء الوضع على ما هو عليه وعلى المتضرر اللجوء للإنتحار ، هل تعتقد أن أهل الصعيد يعشقون الأسلحة ويحبون القتل وتثيرهم مناظر الدماء ؟
مخطئ أنت !
هل شاهدت رجالاً يبكون لأنهم أوقعوا أنفسهم وعائلاتهم فى دائرة الثأر ؟
هل شاهدت أماً صعيدية فقدت زوجها وأخاها وابنها فى دائرة الثأر اللانهائية ؟
هل شاهدت العروس التى قُتل زوجها ليلة الزفاف ومعه أربعة من أصدقائه وعادت إلى بيت أهلها أرملة مصابة بالصدمة وظلت صامته حتى ماتت ؟
أهنئك لأنك لم ترى أى من هذة المشاهد ؛ لو كنت صعيدياً لرأيتها ، ولو شرفتنى بالزيارة لجعلتك تراها أمامك تتكرر كل يوم ، وربما أعرض عليك مشهد ذبح على القبر عرض للكبار والصغار ، حيث يتم إختطاف الضحية وذبحه على قبر القتيل ، يا لهؤلاء المنحطين الجهلة الهمجيين الذين لم يتخرجوا من مدارس بريطانية أو أمريكية ، ولم تهذب نفوسهم جلسة شاعرية فى كافية ستاربكس ، ولم تتلون مشاعرهم بألوان الطيف فى حفلات منير !
ولم يجدوا من يعلمهم أن القتل حرام !
ولم يجدوا جمعيات خيرية تصور مآسيهم وتبثها وتجمع من أجلها التبرعات التى تذهب لتنمية القرى الفقيرة فى سويسرا !
ولم يجدوا إعلاماً يتحدث عنهم ولا إعلامية تبكى عليهم ولا صحفى يكتب عنهم !
لم يجدوا كتاب أو ورقة ، ولدوا وفى أكفهم البنادق وأمام أعينهم الرصاص ، بينما هناك من يمسك بالبلاك بيرى ويتمرغ كأنثى الحمار الوحشى على سريره ليكتب عنهم : الجحيم للهمجيين !
ثم فجأة تذكرت قوات الأمن أن هناك قرية ما بها حالات قتل فقررت أن تحل الموضوع من جذورة حتى أطرافه - شكراً فاتيكا - عن طريق حملة أمنية موسعة تهبط إلى القرية الغير آمنة فتعتقل النساء حتى يسلم الرجال أسلحتهم ، وتقيم حفلات الصلح الجماعى التى يتم بثها على القناة الإقليمية ، وتستقر الأوضاع حتى ينصرف السيد مدير الأمن إلى حيث تمت ترقيته لجهودة فى القضاء على الثأر ، فتخرج الأسلحة من مكامنها تحت الأرض ، ويخرج الرجال الغاضبين الذين لم يحضروا أى كورسات تعليم إتيكيت من قبل ، وقد إستفزتهم رغبة الثأر وأرادوا أن يحققوا القصاص الذى لا مفر منه ، ويستمر الأمر لسنوات حتى تتذكرهم قوات الأمن من جديد ، فتعود من جديد ومعها القبضة الحديدية ، فيتم إختطاف النساء ، كأن النساء هن أصل المأساة ، فى كل حال يتعرضن لفقدان الأبناء والآباء ، ثم تختطفهم قوات الأمن كرهائن ، أى دولة هذة التى تتخذ الرهائن ؟!
الثأر فى الصعيد يا عزيزى الفخور بقاهريتك سببه هو تهميش الصعيد وتعطيله ، بسبب عدم وجود مؤسسات تعليمية أو ثقافية أو إجتماعية أصبح إطلاق الرصاص هواية ، وأصبح القتل رياضة ، ولأن الصعيد يدفع الضرائب التى تذهب لتشجير حدائق القاهرة ، أصبح الصعيد غابة كبيرة ، يُتهم أهلها بالغباء والفقر !
لا تتاح لهم فرص التعليم من الأصل .
ولا فرص التنمية من الأصل .
كيف تتوقع منهم أن يكونوا أذكياء ناجحين ؟
هل أنا متحيز ؟
نعم أنا كذالك ..
الجهل ؛ مفارقة عادية تلك عندما نرى أن المناطق الأكثر فقراً فى الوطن هى ذاتها الأقل تواجداً فى الجامعات ، هل هى صدفة أن المدقعين لا ينجحون فى التعليم ؟
أثناء دراستى فى الأزهر كان لى صديق ذكى جداً لكنه يعيش فى بيئة تصلى كل يوم كى لا تصبح منها ، يعيش تحت خط الفقر بحيث أنه لو نظر على إمتداد الأفق لما رأى ذالك الخط الذى ابتعد عنه كثيراً ، لكنه كان موهوباً فى الرسم ، تخيل معى من لا يجد طعام إفطاره يحلم بأن يمتلك ألوان كثيرة غالية الثمن ، أقل بقليل من سعر ساندويتش فول ملوث ، ويحلم بورق رسم باهظ الثمن ، ماتت موهبتة وتحللت ، وما عدت أراه يتصفح كتب التربية الفنية منذ أن عمل كسائق ميكروباص .
هناك إحتمال ما أن تكون قد رأيته أمامك من قبل وقلت فى عقلك المرفه ؛ اللعنة على هذة الفئة الهمجية من سائقى الميكروباصات ، وما أدركت أنه لو كان امتلك اثنين بالمئة من مواردك لأصبح فناناً تمد إليه الأيدى للمصافحة ، أو طبيباً تنتظر أمام بابه ساعات ، لكنك فضلت الطريقة الأسهل فى التفكير ، وهى أن هذا الشخص كان ابن مليونير مرفه ولكنه تعلم السفالة من الشارع ويعمل كسائق ميكروباص لأنه لا يليق به إلا مثل هذا العمل ، حتى عقولنا أصبحت عنصرية !
هل رأيت من قبل أطفال الشوارع وهم يحملون فى أيديهم مسامير حديدية يخدشون بها السيارات ؟
ألا يخاف هؤلاء على سيارات آبائهم أن يفعل بها الآخرين هكذا ؟
عفواً ليس لديهم آباء !
ألا يخافون من عقاب الله ؟
أغلبهم لا يعرف الله !
ألا يخافون من أى شئ ؟
ربما لأنك كنت تمتلك أباجورة بجوار سريرك تتيح لك رفاهية إطفاء وإضاءة نور الغرفة فتكونت لديك رغبة بأن تنام والنور مطفأ ، لم تكن لديهم هذة الخاصية ، تحت الكبارى النور كالظلام ، والموت كالحياة ، عفواً لا يخافون من شئ ، لأنهم إعتادوا على كل شئ .
لا تقلق ، يمكنك أن تقوم بزيارة أحد ملاجئ الأطفال وأن تحتضن طفلين وتلتقط معهم الصور وتتبرع بما يجود به قلبك لهؤلاء المساكين ، وتخرج لتشترى بعض المناديل من البائع عند الإشارة ، ثم تعود إلى منزلك وتجلس تحت التكييف وتنعم براحة الضمير ، لكن سيظل بالشارع أطفال يعملون تحت مظلة الفقر والجهل ، وتظل طفلة لم يتجاوز عمرها تسعة أعوام تزور منزلك كل أسبوع لتقوم بأعمال المنزل ، وتظل أنت تزور الملجأ ، ويظل المجتمع يتحلل حتى ينتهى ، وتنطلق ثورة الجياع التى ستجعل الجهل هو سيد الموقف ، والفقر هو صاحب القرار ، وتنعم أنت براحة الضمير !
إطمئن لن يحدث شئ بعد أن تقرأ هذا المقال ، لن تقام ندوات فى الصعيد داخل القرى الأكثر عنفاً ، ولن يتم تطوير التعليم بها ، ولن تحل المشاكل الإجتماعية ، ولن تتحرك أنت ولا أنا ولا الآخرين ، سنفكر ونفكر ونفكر ، ونضع الحلول وندرسها ونحللها ونستمر فى التحليل حتى يتحلل المجتمع بأكمله ، ويسأم الصعيد من تهميشه ويسأم الفقراء من إضطهادهم ، فقط إنتظر .. مسألة وقت !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تعليقك لازم يكون مفيد، الشكر وإبداء الإعجاب أمور غير مفيدة.