التذكرة رقم كام ؟
طيب تمام أنا فى القطر آهوه ..
هذة كانت أولى الكلمات التى خرجت منى فى القطار المتجه من أسيوط إلى بنى سويف حيث أدرس الصيدلة فى جامعة النهضة ، وعَمر هو رفيق السكن وصديقى الذى حجز لى تذكرة القطار ، والقطار هو 983 والتذكرة رقم 24 ، أتحرك وسط زحام شديد وأحمد الله أنى لا أحمل سوى حقيبة سفر واحدة ، كنت هاتبهدل لو كان لدى حقائب كثيرة وسط هذا الزحام ، عربة القطار تمتلئ تقريباً بطلاب من جامعة النهضة أغلبهم أعرفهم ومنهم من أعرفه شخصياً ، لكنى لست إجتماعى على أى حال وليست من عادتى أن أبادر بالتحية ؛ لذالك وصلت إلى الكرسى وألقيت جسدى عليه وانتظرت حتى يتحرك القطار دون أن أنطق بأى كلمة لأى شخص ، حتى عَمر الذى أرهق نفسه فى حجز التذكرة سلمت عليه ببرود ودون كلام ، أتعجب من برودى أحياناً وأحاول تفسيره بطرق مختلفة ، لكنى فى النهاية متعايش معه ، ومع تعدد تفسيرات البرود تظل الحقيقة أنى .. بارد !
أنظر حولى لأستكشف المكان الذى سأقضى فيه حوالى 4 ساعات ، بالخلف قريب منى شخص أعرفه جيداً ، فتاة كان لها أثر غير مباشر فى حياتى وربما هى لم ولن تعلم فى يوم من الأيام أنها أحدثت ذالك الأثر ، لولا أنى بارد لكنت بادرتها بالتحية ، العديدين هنا أعرفهم وبعضهم جمعتنى بهم قاعات دراسة واحدة ، لا يهم ستمر الساعات بسرعة وأصل إلى بنى سويف فى هدوء ، صوت صبّاح فخرى وهو يغنى قدك المياس يجعل الوقت أحلى ، يليه صوت ماجدة الرومى طوق الياسمين ، ثم كاظم الساهر أنا رماد الآن ، ثم كاظم ، ثم ماجدة الرومى ، ثم وديع الصافى ، كاظم مرة أخرى ، بدأت أشعر بالملل ، أوقف سيل الطرب الذى أصبح مملاً وأبدأ فى تفقد مواهبى ، أختار منها موهبة الغناء ، ولا مانع من موهبة التلحين أيضاً ، وعلى رأى فلفل : أنا أحسن واحد يعرف يلحن ويغنى فى عالم سمسم .
وسددت فى وجهى الطريق بمرفقيك ..
وزعمت لى أن الرفاق أتوا إليك ..
هل الرفاق أتوا إليك ؟
أم أن سيدة لديك ؟
وهكذا أخذت أغنى بصوت لا يسمعه غيرى وأغير فى اللحن عدة مرات وأكرر قصائد لنزار وعنترة بن شداد حتى أنى ألقيت على نفسى خطبة قس بن ساعدة بطريقة درامية ، أفادنى هذا كثيرا وضيع ساعة أو أقل من الوقت .
لا فائدة ، الوقت يمر ببطء ببطء ، ولا أطيق الحديث مع أى شخص ، يجب أن أسمع صوتها كى يمر الوقت ، أو كى تمر الشمس فى السماء ، يجب أن أسمع صوتها كى يحدث أى شئ فى العالم ، لا ترد !
أحسن " مش أحسن خالص " ؛ فى ستين داهية " يارب تكون كويسة " !
عموماً سأصل قريباً وكله تمام ، عَمر يدعونى للخروج حتى آخر العربة لكى يتمكن من تدخين سيجارة ، ليس عندى مانع على الإطلاق ، رغم أنى لا أدخن إلا أنى أميل للفساد بشكل تلقائى ، أعشق جلسات الحشيش التى أكون أنا فيها المتيقظ الوحيد ، الجلوس مع المساطيل له نكهة أخرى ، وجلسات الحديث عن الثأر والسلاح وأنواعه تثير داخلى الشخص الشرير ، لذالك لا يمكننى أن أرفض عندما يطلب منى أحدهم أن أساعده ليدخن سيجارة ، خرجت معه فى صمت وأنا أعيد على نفسى بعض الأبيات لــ كثير عزة :
رهبان مدين والذين عهدتهم ..
يبكون من حذر العذاب قعودا ..
لو يسمعون كما سمعت كلامها ..
خروا لعزة ركعاً وسجودا ..
الله يعلم لو أردت زيادةً .. فى حب عزة .. ما وجدت مزيدا !
وعندما رأيت السيجارة وهى تخرج لتحترق أمامى حاولت جاهداً أن أتذكر بعض الأبيات التى كتبها أشرف أبوالنصر "أخى" فى وصف السيجارة المحترقة ، تذكرت نصف شطر ، ألفافة تبغ نحرقها ؟
ولم أذكر الباقى ، ربما لم يكن هناك باقى فى الأصل وأشرف كان بيشتغلنى ويكرر نفس الجملة ، عموماً صوت القطار المنتظم ساعدنى على تنظيم تفكيرى قليلاً .
عودتى إلى المقعد وأنا أهتز مع القطار ليست بالشئ السهل ، حاولت أن أتحاشى النظر إلى الناس حتى لا أضطر أن أحضن أحدهم أو أسأله عن حاله وأخباره وأشياء أنا فى غنى عنها ، أنظر إلى مقعدى لأجد فتاة تجلس عليه !
نهارنا لبن !
طبيعى - بما أن القطار مزدحم بالركاب الذين لا يمتلكون تذاكر - أن يستغل أى شخص فرصة وجود مقعد شاغر ليجلس عليه ، وطبيعى أن أستخدم برودى المعتاد لأذكره أن هذا مقعدى الذى دفعت "أو دفع لى عَمر" من أجله 28 جنية مصرى شاملة الضرائب ، لكن فتاة ! ، صعب جداً ، أنا هو ذالك الشخص الذى قضى أول 13 سنة من حياته لم يتحدث إلى فتاة سوى أخواته ، من المستحيل أن أطلب من فتاة أن تترك مقعدها / مقعدى لأجلس أنا عليه ، لذالك صدّرت عمر أمامى وفضلت الوقوف فى الممر والعبث بهاتفى المحمول ، وأشرت للفتاة بما معناه أن لا بأس سأقف هنا .. إنه أمر طبيعى !
إن كنت قد قررت أن أقف فى الممر لمدة ساعتين أو أكثر فيجب أن تكون لدى خطة تسلية محكمة لقتل الوقت والتمثيل بجثته ، وهو بالضبط ما لم أملكه ، لذالك وقفت فى معركة ضارية مع الملل وانتصر الملل فى النهاية ، ليس عندى حل آخر سوى أن أرفع رأسى عن الموبايل وأنظر إلى الأشخاص وألقى التحية على بعضهم وأتقبل التحية من البعض الآخر ، وأشير بيدى وأرد على الإشارات ، حركات تراجيدية جداً توحى بأنى أعيد تمثيل فيلم "صعيدى فى الجامعة الأمريكية" ؛ حيث أنى مدعو للإندماج فى وسط الجامعات الخاصة وأنا لا أنتمى إليه بأى حال من الأحوال ، نظرت إلى الفتاة التى أثرت فى حياتى وحاولت أن أبلغها الشكر بطريقة لاسلكية لكنها كانت فى حوار عميق مع المرحلة الخامسة من النوم ، لذالك فضلت أن أشكرها فى قلبى ، نظرت إلى الفتاة التى إحتلت مقعدى فوجدتها فى المرحلة السادسة من النوم ، نظرت إلى عَمر رفيق الرحلة فوجدته فى المرحلة الرابعة بعد المائة الخامسة من مراحل النوم ، حسناً يجب أن أفعل أى شئ .
تحركت قليلاً إلى الأمام ، وجدت شئ غريب !
شئ تقشعر له الأبدان وينتصب له شعر الرأس !
شئ يثير فى جسدك الرهبة والدهشة !
كرسى فاضى !!
صدقنى أنا لا أبالغ ، لكن أن يكون هناك كرسى فاضى فى قطار ملئ بالأشخاص الذين لا يجدون أى مقاعد هو شئ غريب ، جذبتنى نوبة حماس فسألت الشخص الذى يسكن المقعد المجاور للفارغ : حد قاعد هنا ؟
ربما تعرض لهذا السؤال من قبل ويحتمل جداً أن يكون بالفعل حد قاعد هنا لكنه ذهب إلى الحمام أو لتدخين سيجارة أو لقتل الكمسارى أو أى شئ ، لكنى سألته على أى حال ، فأجابنى بحركة من جسدة تعنى تفضل إجلس بجوارى !
جلست ، وأخذت وضعية ساق على ساق ، وكأنى قد ورثت هذا القطار عن أجدادى الإقطاعيين ، وأرحت ظهرى قليلاً إلى الوراء ، أنا الآن البرنس عمر أبوالنصر أمير باريس والسودان ، بالنسبة للفتاة أفضل شعور هو أن تدوس على السيراميك البارد بعد يوم طويل من الكعب العالى ، بالنسبة لى أفضل شعور هو أن أجلس كما أريد بدون أن أسمع صوت دكتور ينبهنى أن طريقة جلوسى لا تناسب جلالته ، مالك وطريقة جلوسى ؟
هل أجلس على قلبك ؟
جيد أنى فى قطار حيث لا يمكن أن ينقد أحدهم جِلستى ، إنتبهت إلى صوت الجالس بجوارى : إنت طالب فى الجامعة ؟
آه
جامعة إيه ؟
النهضة !
نعم ؟
النهضة NUB
دى جامعة خاصة ؟
ثم إستطردنا فى المعضلة الأزلية ، بتدفعوا كام ؟ ،، نظام الدراسة والمعادلة والشهادة والشغل والصيدلة والبقالة والفلوس والسفر والهجرة والثورة والفلول والإخوان والبلد والتعليم وبتدفعوا كام ونظام الدراسة والمعادلة والشهادة والشغل والصيدلة !
ثم تم عكس الدائرة كما هو متفق عليه ، بدأت أنا الأسئلة ، أسامة خريج تجارة أسيوط ، مر بتجربة الجيش ، إذاً فلا مفر من أن أستمع لقصص كثيرة عن بطولاته وأهواله داخل الجيش ، كل من يمر بتجربة الجيش يخرج ليحكى عن أحداث غريبة ، كأن هذا الجيش ينتمى لدولة فيتنام ، ولابد أن أستمع إليه بتشجيع وإيحاء بالإندماج حتى لا أقلل من قيمة أحاديثه ، أسامة يبحث عن عمل ، أسامة شاب مصرى ، أسامة يذهب إلى حديقة الحيوان.
قصة أسامة ليست غريبة على الإطلاق ، هى قصة يشترك فيها عشرات / مئات الآلاف من شباب الخريجين ، لا شئ مشوق ، لا شئ جديد ، لا شئ يدعو للإستمرار فى الحوار ، استأذنك اجيب اللاب ، رجعت إلى مقعدى القديم الذى تعرض للإحتلال ، تناولت حقيبة اللابتوب بهدوء حتى لا أوقظ المحتل ، رجعت إلى مقعدى الجديد ، أخذت أتصفح الفيسبوك ، تحاشياً لأى حوار مع صديق إليكترونى فى ظل إهتزار القطار حولت وضع الفيسبوك إلى أوفلاين ، أخذت أتصفح الأخبار ، لا شئ جديد ، لم يكتب بلال فضل شئ جديد اليوم ، ولا علاء الأسوانى ، لو كان القطار له شباك أكبر قليلاً لألقيت نفسى منه تخلصاً من الملل ، الموت يقتل الملل بالتأكيد .
أتصفح مدونة صديقى محمد الشيخ يوسف ، ذالك الفلسطينى الغزاوى الموهوب ، عندما أقرأ لهذة المواهب الحقيقية أشعر بيقين أنى لست سوى تائه فى رحلة البحث عن الصفر ، لكن لا شئ مستحيل ، بالمناسبة سأخبركم كيف أثرت تلك الفتاة التى كانت معى فى القطار على حياتى ، قرأت يوماً قطعة صغيرة لها تقول فيها أن كلمة شكراً تفعل الكثير ، وجيد أن تقول لأختك "بعد إذنك" عندما تطلب منها أى شئ ، وجيد أن تشكرها ، وجيد أن تحدث فتى القهوة بصيغة "لو سمحت" ، فكرت فى كلماتها وقررت أن أنفذها فى البيت ، وبدأت التطبيق مع إخوتى ، وكانت النتيجة حاسمة ، وهذا أفادنى من ناحيتين :
الناحية الأولى أنى أيقنت أن الكلمة قد تغير كثيراً ، كلمة تقولها أو كلمة تسمعها ، تماماً كما فعلت كلماتها البسيطة معى .
الناحية الثانية أنى أصبحت أكثر وأكثر تقارباً مع إخواتى البنات .
فكرت فى مفارقة كيف أنى وجدت كرسى فاضى وسط قطار مزدحم ؛ سألت أسامة الذى بجوارى ، فرد على : هذين المقعدين فى الأصل كانا مخصصين لبعض أعضاء النيابة العامة ، عرف داخل سكك حديد مصر أن تكون هناك مقاعد شاغرة تحسباً لحالات السفر الطارئة للشخصيات المهمة مثل أعضاء النيابة العامة أو الهيئات القضائية ، ولأن أسامة " عنده قرايب مهمــــيـــن " ، إستطاع أن يحصل على هذين الكرسيين بشكل إستثنائى ، وشاءت الأقدار أن أكون أنا فى أحدهما ، كيف عرفوا أنى شخصية مهمة ؟
لا شك أن أخبارى تسبقنى !
ضريبة الشهرة !
تعبت من الجلوس ، على أن أقف الآن فى صف طويـــــــــــــــــــــــل من المنتظرين للنزول من القطار .
الأسطورة تقول : القطر مش بيقف فى بنى سويف غير 5 دقايق ، وفيه ناس كتير جداً نازلين بنى سويف "جامعة النهضة" ، لذالك علينا أن نكون مستعدين للنزول قبل حركة القطار .
مستعدين تعنى أن تقف لمدة حوالى 15 دقيقة تنتظر توقف القطار ، وعندما يحدث هذا تبدأ الحركة البطيئة المتعجلة الصاخبة للنزول ، كأن بنى سويف هى كعبة العلم ونحن الحجاج ، شالله يا نهضة ، أتحرك ببطء ولا يثقلنى شئ لأنى أحمل حقيبة واحدة رغم أنها كبيرة إلا أنها منظمة ، بالإضافة إلى حقيبة اللابتوب الخفيفة ، لا شئ صعب ، فقط على أن أساعد عَمر فى إنزال حقائبه الكثيرة ، لا شئ صعب على الإطلاق .
عمر أبوالنصر
24/9/2012
2.51 Am
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تعليقك لازم يكون مفيد، الشكر وإبداء الإعجاب أمور غير مفيدة.