الخميس، 28 فبراير 2013

ملائكة وشياطين


تقول الأسطورة أن ملكاً أراد أن يرى لوحة تمثل التناقض التام بين الخير والشر ، فأمر أعظم فنان فى عصره أن يرسم هذة اللوحة ، واشترط عليه أن تكون معبرة تماماً وله من الوقت ما شاء حتى يتمها ، احتار الرسام كثيراً ، لكنه قرر أن يرسم لوحة لشخصين أحدهما الخير والآخر الشر ، وبينما يسير رأى طفلاً جميلاً تبدو على ملامحه السكينة والهدوء ، فأتم رسم الطفل ، ثم أخذ يفتش عن إنسان لديه من السوء الأخلاقى والخِلقى ما يؤهله ليمثل الشر المطلق ، وطالت مدة بحثه إلى عشرين سنة ، ثم وجد شاباً سكيراً ممزق الملابس يكسب قوته من سرقة ما فى جيوب الآخرين ويدمن الخمر والمقامرة ، طلب منه الرسام أن يرسمه ، فبكى الشاب وقال له "من عشرين سنة طلب منى رسام أن يرسمنى ، كنت طفلاً" .

هذة القصة أسطورية بالطبع ، ولكن لنلتفت إلى فكرتها قليلاً ، إنها التحولات التى تحدث للبشر فتحولهم من الأقصى إلى الأقصى ، من بشر طبيعين لهم سلوكيات طبيعية إلى عكس ذالك ، عندما حدثت كارثة قطار أسيوط وخرج الدكتور عصام العريان ليستغل الموقف منادياً "أين البرلمان ؟" ، قال لى أحد المناضلين القدامى من جيل العريان أن شباب الجماعة مثل العريان والبلتاجى بل ومحمد بديع نفسه ومحمد مرسى ؛ كانوا طلاباً مناضلين ، من النوع الذى قد يفترش الأرض إعتصاماً لو سمع أن إدارة الجامعة قد أهانت أحد الطلاب بغض النظر عن إنتماؤه السياسى ، وأضاف متعجباً "ما الذى جعله حقيراً وإنتهازياً إلى هذا الحد ؟" .

لا أناقش هُنا قضية خاصة أو مسألة سياسية ، وإنما أريد أن نلتفت لهذة الحالة العامة من التغيرات الجذرية التى تحدث للبشر ، النظرة السطحية التى تميل إلى عدم المسئولية تُرجع هذة التغيرات عادةً إلى لفظ متميع مجهول الهوية اسمه "الزمن" ، كأن الزمن هذا هو وحش طويل الأنياب يلتهم الأخلاقيين ويحولهم إلى مجموعة من الإنتهازيين الحقراء ، والعجيب أنه حتى بتغير هذا الزمن تظل مسئولية أخلاق الأفراد ملقاة على عاتقه ؛ من مئات السنين وفى عصر الإمام الشافعى كان البشر يلقون بمسئولية أخلاقهم على الزمن فقال لهم الشافعى "نعيب زماننا والعيب فينا" ، وحتى الآن استمر الزمن هو المتهم الأول ، وبقليل من التحليل سنجد أن الزمن هنا هو لفظ إصطلاحى يقصد به قائله المجتمع ، فهو يقول أن الزمن ـ أى المجتمع ـ وليس الأفراد مسئول عن هذة النقلة الأخلاقية ، لكن المجتمع عبارة عن مكون مادى غير عاقل ومكون بشرى ، ولو افترضنا أن المكون البشرى غير مسئول عن تغير أخلاقه فإننا نقول أن الأرض والشجر والأحجار هى التى تتلاعب بأخلاقنا ، كأننا نقول "أنا لم أصبح سيئاً إلا بسبب هذة الشجرة" ، وهو ما لايُعقل بأى حال من الأحوال ، لذالك فإن نغمة "الزمن الغادر السئ الشرير" ليست إلا شماعة كبيرة .

وربما هو ليس تحول وإنما نزعة شر موجودة فى الأصل وكامنة وتنتظر فقط الفرصة المناسبة للظهور ، ويُقال أن الطلاب الجامعيين الأكثر إلتزاماً مع المُحاضرين يُتحولون إلى الإستبداد والسادية لو انقلبت الأمور وأصبح هؤلاء الطلاب مُحاضرين يوماً ما ، ويُقال أيضاً أن الأقليات المضطهدة ستمارس نفس الأفعال التى تُمارس عليها إن امتلكت القوة ، ويُقال أن الثوار الذين يخرجون للمناداة بالحرية والعدالة سيصبحون هم أول من يقمع هذة القيم عندما يمتلكون السلطة ، وهذة النظرة ليس لها دليل واقعى حاسم ، وإنما هى مجرد إفتراضات ورقية وإن كانت بعض الأحداث المُدلِلة قد وقعت بالفعل ، مثلاً الثورة العسكرية التى قامت بها حركة التحرير الإريترية وكان من مبادئها بناء دولة قوية تقوم على العدل والحرية والمساواة ، ورغم أن أعضاء هذة الحركة كانوا ـ يبدو عليهم ـ على استعداد لدفع حياتهم ثمناً لهذة المبادئ ، إلا أنه بعد الإنتصار والوصول للسلطة فى أوائل التسعينات تغيرت الإستراتيجية تماماً ، حتى أن إريتريا الآن هى الدولة الأخيرة فى تصنيف الحريات حول العالم ، ولا نقابات ولا هيئات حكومية ولا أى أثر لدولة . ومن إريتريا نعبر النيل إلى مصر ، لنجد الإسلاميين الذين ناضلوا فى معتقلات عبدالناصر والسادات ، وكان لسانهم يلهج بالحديث عن العدل والمساواة والدولة العادلة ، لكن كل هذا تغير تماماً بعد وصولهم للسلطة ولا أريد أن أسهب فى الحديث عن هذا التغير الذى لا يخفى على أحد ، هل كانوا ملائكة وتحولوا إلى شياطين أم أنهم كانوا شياطيناً من الأصل ثم ظهرت حقيقتهم فى الوقت المناسب ، سؤال موجه لعقل القارئ ، وقبل أن أترك هذة النقطة لابد أن أورد المثال الأكثر وضوحاً حول هذة الحالة ، الثورة الإسلامية الإيرانية ، قبل هذا الحدث التقى شيوعى وإسلامى فى سجون الشاه حاكم إيران ، فقال الإسلامى للشيوعى "لن يُظلم أحد فى ظل الدولة الإسلامية" ، وشاء القدر أن يكون هذا الإسلامى الذى أطلق الوعد العظيم بأن "لن يُظلم أحد" هو الإمام الخومينى نفسه ، والشيوعى الذى استمع إليه وصدقه أصبح من الدفعة الأولى التى نُفذ فيها حكم الإعدام بعد الثورة الإسلامية ، إنها مُعضلة الملائكة والشياطين .

وإن كان هذا صحيحاً ، وإن صحّت أسطورة مستر جيكل ودكتور هايد بأن داخل كل إنسان إزدواج ما من الخير والشر ، فإن الثقافة يجب أن تُنظم هذا الإزدواج وتكبح جماح الرغبات الشريرة داخل النفس البشرية ، لا تجعلوا الشيطان الكامن ـ إن إفترضنا وجوده ـ يطغى على الإنسان الأخلاقى ، وهذا أقصى ما يمكن أن تصل إليه فى إصلاح ذاتك قبل إصلاح العالم ، أما المتحولين الذين أصبحوا بالفعل مقززين ولزجين ، فرفقاً بهم حتى يجد علماء السيكولوجى السبب القاطع لهذة النقلة العقلية التى حدثت لتصرفاتهم ، وربما يؤدى البحث العلمى إلى تجنب نشأة هتلر آخر ، أو عصام العريان آخر .

إعدام الليدى جين غراي ـ بول دولاروش ـ من ويكيميديا

الخميس، 14 فبراير 2013

الجريمة والعقاب

على يوتيوب ؛ فيديو لوزير التعليم الإيرانى وهو يتبادل القبل مع رئيسة المتحف الوطنى فى المصعد ، ولا تخلو أى جريدة صفراء أو حمراء من عنوان "فضيحة الوزير الإيرانى" ، بل أن بعض الجرائد تنبأت له بالرجم حتى الموت جزاءاً وفاقاً على  متعته المسروقة بين الأدوار العلوية . إننا فى قلب العهر الإعلامى النابض ، لم أشعر للحظة أن الوزير الإيرانى داعر أو منفلت أخلاقياً ، لكن كلما صادفنى الخبر أشعر أن العهر الإعلامى يلاحقنى ، هذة الدعارة التى تجعلك تتبع الأفعال الشخصية للبشر وتنشرها على اليوتيوب وتصدر عليها الأحكام وتعيدها وتكررها مسبوقة بوصف "فضيحة" .

ربما سيتعرض الوزير للإقالة وربما المحاكمة مع حبيبته ، وسيسألهما القاضى "هل لامست شفتيها بشفاهك ، هل شعرت بالحُب يتسلل من قلبها إليك وهى فى حضنك ، أتنكر أنك حاولت سرقة بعض لحظات السعادة من حبيبتك فى المصعد ؟" وربما ستكون لدى الوزير الجراءة الكافية ليقول "نعم لقد فعلت" ؛ حينها سيصرخ المدعى بالحق منتصراً "لقد اعترف يا سيدى القاضى" ؛ ويُدان الرجل وتدان المرأة ، ويُدان القاضى والإعلام والثقافة الوسخة التى تجعل من تصرفات البشر الطبيعيين فضيحة .

أُريدُ ؛ أريد أن أسأل كل قارئ هنا ؛ ألم تُقبل فتاة فى حياتك ؟ ألم يسرح خيالك إلى خد حبيبتك لينتزع حقه البشرى فى الحياة ، ألم تحلم يوماً بالرغبة فى إعادة تنفس الهواء الخارج من رئتيها ، إن كنت قد فعلت فعليك أن تتوارى فربما تكون الكاميرات فى كل مكان ، وربما ـ أيضاً ـ هناك حكم دينى يُحرّم الحب وتبعاته .

احترس ؛ الكاميرات ستحول قُبلتك لـ "فضيحة" 

__

أتخيل كم العبـء المُلقى على كاهل الرئيس محمد مرسى ، الرجل مسئول عن تحقيق الأحلام التى سطرها حسن البنا والرواد الأوائل فى الجماعة ، ومسئول عن إرضاء مكتب الإرشاد بأكمله ، يتلقى النقد والإعتراض فى سبيل تحقيق فكرة أستاذية العالم التى تتمحور حولها أدبيات الجماعة ، وهو ما هو إلا شخص عادى وجد نفسه بديلاً لمرشح رئاسى مرموق ، فأحس بالزهو ، ثم ما لبث أن وجد نفسه هو المرشح الرئاسى المرموق ، فتحمل الإتهامات بأنه استبن ، ثم وافق أن يكون ظل المرشد فى القصر .

 يبدو طيباً وهو يلعق اصبعه بينما يقرأ البيان من جهاز الآيباد ، ويبدو ساذجاً وهو ينظر فى ساعته أثناء لقاء دولى ضارباً بالبروتوكول عرض الحائط ، ويبدو مثيراً للشفقة وهو يخلط بين اللغة العربية والإنجليزية أثناء حوار مع صحفيين ألمان ، يعارضه الثوار بينما هم فى الواقع يحملونه أكثر من طاقته ، كيف له أن يحقق مطالب الثورة بينما كان أقصى طموحه فى لقاءه بعمر سليمان هو الإفراج عن خيرت الشاطر .

 لقد عاش الرجل فى الظل وعندما خرج منه أصابته الحروق الشمسية ، إنه لم يُخلف وعوده لأنه لم يقلها من الأصل ، وإنما وضعوه فوُضع ، ألقوا لهُ الكلمات فنطقها ، أجلسوه فجلس ، عليكم أن تراعوا شعور الرجل الذى يعتقد أنه رئيس مصر بينما يهتف الثوار بسقوط المرشد ، ويعترضون على حكم المرشد ، ويعتصمون ضد خيرت الشاطر ولا يراعون شعور محمد مرسى ، رفقاً بالمرسى الضعيف يا ثوار مصر .

الرئيس محمد مرسى فى طفولته .. لقد كان طفلاً لطيفاً

__

لا أستطيع ـ لأسباب صحية تتعلق بغشاء المرارة ـ أن أُناقش عيد الحب من الناحية الشرعية ، ربما لا أستطيع التكيف مع الرغبات "الشرعية" لدى بعض الأشخاص فى إفساد أى احتفال بمناقشات سخيفة حول تحريمه وإباحته ، وفى الواقع أنا لا أهتم ، ولو كنت أهتم لعكرت عليهم إحتفالات كثيرة ، مثل الإحتفال بالصعود للسلطة ، والإحتفال بالحصول على أصوات إنتخابية ، كنت سأسألهم هل الخروج للشوارع والإحتفال بركوب كرسى الرئاسة حلال والخروج للشوارع حاملين الورود حرام ؟ لكن لحسن الحظ تُصيبنى نوبات اللامبالاة وربما الضحك الهيستيرى التى تمنعنى من الرد ، وعنّى ؛ أعتبر الإحتفال بالحُب فرض عين على كل إنسان يحتوى صدره على قلب ينبض ، عيد حب سعيد وأنصحكم بعدم الإهتمام أيضاً .

قُل من حرّم ؟

الاثنين، 11 فبراير 2013

عن صدام حسين الذى ليس بطلاً ـ 1


عندما كنت فى الصف السادس الإبتدائى ، وقف المدرس أمامنا فى الطابور المدرسى كأنه سيقول خبر هام ، ثم انطلق يُلقى خطبة قصيرة عن ما أسماه "استشهاد البطل صدام حسين" . وكان مما قال ؛ أن هذا الرجل أراد المجد للعرب وجعل الوحدة العربية هدف حياته ، وأن روح صلاح الدين قد تقمصته بشكل جزئى ، وأنه بطل قومى ، وأن المجد كل المجد للشهيد البطل صدام حسين ، وصدقناه واقتنعنا بطفولية وتمثلت أمامنا صورة الشهيد الذى يقف أمام حبل المشنقة شامخاً .

لكن يبدو أن مُعلمى المرحلة الإبتدائية ليسوا باحثين مدققين كما كنا نعتقد ، ويبدو أيضاً أنه استغل سلطته التعليميّة فى محاولة فرض وجهة نظر حياتية على تلاميذ فى مرحلة النشأ ، وبدا لى فيما بعد أن وجهة النظر هذة خاطئة كُليّاَ . وحتى نصل إلى هذة النقطة يجب أن نُراجع شخصية صدام حسين وأفعاله ؛ ولنبدأ من البداية ،من النشأة المضطربة فى قبيلة تشتهر بالعنف وإنتشار عادة القتل ، لأب عاش حاته مصاباً بالشلل جراء إصابة أثناء محاولته الهجوم على أحد الأشخاص ، وأم تعمل بقراءة الطالع ؛ باختصار فقد ولد فى كنف الفقر وعاش كثيراً فى ظلاله ، ونشأ بين القتل حتى أعتاد عليه ، فلم يكُن مستغرباً أن يُصرح أمام الكاميرات قائلاً "كل واحد يوقف فى وش الثورة ، سوا كانوا الف ، الفين ، تلاتلاف ، اقصص روسهم كلهم من دون ما ترجف منى شعرة" . وإن علمت أن ما يُطلق عليه صدام اسم "ثورة" هو إنقلاب عسكرى بحت قام به جنود منشقون أدى إلى إعدام الملك فيصل الثانى وأسرته وخدمه رمياً بالرصاص دون محاكمة ، ستُدرك مدى خطورة الشخصية الهجومية التى يتمتع بها صدام حسين حين يتوعد كل أعداء هذا الإنقلاب بقص الرقاب .

وحتى لا تختلط الأوراق ، وتتداخل ملفات الجرائم ويسهل خلطها بالمشاعر القومية المتأججه التى استعان بها صدام كثيراً للحصول على شرعية نفسيه لحكمه ، سأحاول أن أتحدث بتفصيلٍ ما وبتسلسل تاريخى عن الجرائم التاريخية لصدام ونظامه .

فى عام 1958 ؛ قام مجموعة من الضباط فى الجيش العراقى بإنقلاب على الملك فيصل الثانى ملك العراق وأحد ملوك السلالة الهاشمية ، وإن كنا بصدد تقدير مدى شرعية هذا الإنقلاب فإنه لا يعدو كونه أحد الإنقلابات المتتالية فى الدول العربية التى حدثت فى هذة الفترة ، وكانت تستمد شرعيتها فقط من قوة السلاح وتسمى نفسها ثورات بدون أى سند تعريفى من أى معجم ، وتؤدى إلى صعود العسكريين إلى سدة الحكم فجأةً وبدون أى مقدمات ، غير أن إنقلاب ضباط العراق الأحرار كان يتميز بأنه الأكثر دمويةً وعنفاً ، فقد قام الضباط المتمردون على الشرعية الملكية بتنفيذ إعدام ميدانى فى الملك فيصل الذى كان وقتها عمره 23 عام ، وقُتل معه خاله الأمير عبدالإله وجدته الملكة نفيسة وأميرات أُخَر من البيت الملكى ووصيفات وخدم ، تم قتلهم بوحشية ودونما إنذار بعد أن سلم الملك نفسه تفادياً للعنف ، لكن الإنقلابيون لم يراعوا سلمية الملك الشاب الذى كان يتهيأ للقاء خطيبته صبيحة اليوم الذى قُتل فيه . وبعد هذا الإنقلاب وصل الرئيس عبدالكريم بلقاسم لسدة الحكم ، وبعد عام واحد من الإنقلاب الدموى ، نشبت الفرقة بين الإنقلابيين حتى أن أحد الفرقاء دبر إغتيال الرئيس عبدالكريم بلقاسم ، وقام صدام حسين شخصياً بإخراج سلاحه الرشاش وإطلاق النار على الرئيس وقتله . إذاً فبالنسبة لصدام حسين بداية الأشياء أولها القتل ونهاية الأشياء آخرها القتل .

ساعدت قوة شخصية صدام حسين وعنفه ودمويته فى تركيز دعائم سلطته بين الضباط الذين استولوا على العراق ، حتى أنه عندما أصبح نائب الرئيس فى عهد أحمد حسن البكر عام 1968 لم يلبث أن استولى على السلطة كاملةً ولم يبقْ للرئيس منها إلا بعض الشكليات ، حتى أن البكر اضطر لتقديم استقالته من منصب الرئيس عام 1979 بحجة الظروف الصحية ، وأصبح صدام حسين رئيساً للعراق طبقاً للقواعد العرفية التى أرستها الإنقلابات العربية ؛ حيث يخلف كل رئيس نائبه . فأعلن صدام نفسه رئيساً للجمهورية العراقية ورئيساً لمجلس قيادة الثورة وقائداً أعلى للقوات المسلحة .

وبدأت الحقبة الصدّامية بداية عاطفية خادعة ، شعارات مثل "القانون فوق الجميع" و " انتهى عصر الإعتقال بدون سبب" كانت تتردد كثيراً على مسامع الشعب العراقى ، وربما كان الرجل محقّاً جزئياً ، فقد تم تطويع القانون بحيث يُصبح مناسباً للقتل ، وتم تخفيض حالات الإعتقال لحساب القتل الميدانى والمذابح الجماعية . وعندما كان صدام على رأس الدولة كانت عادة القتل لديه قد تأصلت بالفعل ، حتى أنه كان قد ارتكب بعض الجرائم التمهيدية مثل الإعدامات الجماعية للشيوعيين العراقيين ، حيث أن صدام كان قبلاً رئيس جهاز المخابرات الداخلية لحزب البعث الحاكم ، ومسئولاً عن ملف مطاردة الشيوعيين وتصفيتهم ، وعندما ترنحت سلطة الرئيس البكر وأصبح صدام هو الرئيس الفعلى والبكر رئيس شكلى ؛ قام صدام عام 1978 بعمليات إعدامات جماعية للشيوعيين العراقيين ، كان عدد ضحايا إحدى دفعات هذة العمليات 573 قتيلاً أصدر عنهم الحزب الشيوعى العراقى عام 2012 كتاباً توثيقياً ، إذاً فقد كان صدام مولعاً بالمذابح الجماعية لمن يختلفون عنه فى الرؤية الأيدلوجية حتى قبل توليه السلطة بشكل رسمى .

كتاب توثيقى من الحزب الشيوعى العراقى عن ضحايا إعدامات الشيوعيين

وبعد أن تولى السلطة رسمياً ؛ ولم يكُن مر على سلطته الجديدة أسبوع واحد ، قرر أن يُصفى المعارضين له من داخل حزبه ، حزب البعث الحاكم ، وكانت هذة التصفية واضحة وصريحة وعلنية أمام شاشات التليفزيون ؛ سأقتلكم ولا أخشى أحدا . وبطريقة مذبحة القلعة قام صدام بجمع قيادات حزب البعث فى اجتماع مفتوح بإحدى القاعات العامة فى بغداد ، وتلى عليهم ورقة يُعلن فيها أنه وجد بعض الجواسيس داخل الحزب وها هى أسماءهم ، ثم تم إقتيادهم إلى خارج القاعة حيث تم إعدامهم فيما بعد ، وبهذا سيطر الطاغية على العراق عن طريق حزب واحد له جناح واحد .

لم تكن المدرسة الفكرية للرجل مختلفة أبداً عن أى من الإنقلابيين العرب ، نظرية المجد الشخصى وصناعة التاريخ كانت تسيطر على عقله بشكل تام ، حتى أنه كان يتحدث كأنه يوجه العبارات للتاريخ فقط ، فبينما كان الشعب العراقى يفقد مشاريع التنمية التى كانت مُجهزة فى عصر الملك فيصل الثانى ، كان صدام يوجه موارد النفط لصناعة الحرب والتوسعات وينفق على مجده الشخصى وصناعة الحقبة الصدّامية ، وبعد أن كان الملك فيصل يخصص 70% من موارد النفط لمجلس إعمار وطنى من أجل رفاهية الشعب العراقى أصبح صدام يوجه هذة الإيرادات لتحدى العالم بمزيد من المفاعلات النووية وإرضاء غروره ، وبعد أن كانت ميزانية الدولة مُعلنه والإقتصاد يتوجه إلى الإزدهار بخطى ثابتة ، أصبح إستنزاف النفط هو الأسلوب السائد ولا وجود لأى تخطيط منهجى .

وأنبه هنا القارئ ؛ إلى عدم تلقى جرائم القتل كأنها عادية ، فعندما نتحدث عن قتيل واحد فى النظام الصدامى فنحن بصدد أسرة فقدت أحد أفرادها ، وأم أصبحت تبكى وزوجة ترملت وأطفال نشأوا بلا أب ، فما بالك إن كان القتلى بالآلاف ، كم عائلة عراقية باتت حزينة باكية حتى يوطد صدام حسين أركان ملكه . إذا سمعت من يتحدث عن بطولة صدام حسين يجب أن لا تنسى الذين تدلوا من المشانق فى عهده ، تذكر القتلى وعائلاتهم والمعتقلين وضياعهم فى السجون .