عندما كنت فى الصف السادس الإبتدائى ، وقف المدرس أمامنا فى الطابور المدرسى كأنه سيقول خبر هام ، ثم انطلق يُلقى خطبة قصيرة عن ما أسماه "استشهاد البطل صدام حسين" . وكان مما قال ؛ أن هذا الرجل أراد المجد للعرب وجعل الوحدة العربية هدف حياته ، وأن روح صلاح الدين قد تقمصته بشكل جزئى ، وأنه بطل قومى ، وأن المجد كل المجد للشهيد البطل صدام حسين ، وصدقناه واقتنعنا بطفولية وتمثلت أمامنا صورة الشهيد الذى يقف أمام حبل المشنقة شامخاً .
لكن يبدو أن مُعلمى المرحلة الإبتدائية ليسوا باحثين مدققين كما كنا نعتقد ، ويبدو أيضاً أنه استغل سلطته التعليميّة فى محاولة فرض وجهة نظر حياتية على تلاميذ فى مرحلة النشأ ، وبدا لى فيما بعد أن وجهة النظر هذة خاطئة كُليّاَ . وحتى نصل إلى هذة النقطة يجب أن نُراجع شخصية صدام حسين وأفعاله ؛ ولنبدأ من البداية ،من النشأة المضطربة فى قبيلة تشتهر بالعنف وإنتشار عادة القتل ، لأب عاش حاته مصاباً بالشلل جراء إصابة أثناء محاولته الهجوم على أحد الأشخاص ، وأم تعمل بقراءة الطالع ؛ باختصار فقد ولد فى كنف الفقر وعاش كثيراً فى ظلاله ، ونشأ بين القتل حتى أعتاد عليه ، فلم يكُن مستغرباً أن يُصرح أمام الكاميرات قائلاً "كل واحد يوقف فى وش الثورة ، سوا كانوا الف ، الفين ، تلاتلاف ، اقصص روسهم كلهم من دون ما ترجف منى شعرة" . وإن علمت أن ما يُطلق عليه صدام اسم "ثورة" هو إنقلاب عسكرى بحت قام به جنود منشقون أدى إلى إعدام الملك فيصل الثانى وأسرته وخدمه رمياً بالرصاص دون محاكمة ، ستُدرك مدى خطورة الشخصية الهجومية التى يتمتع بها صدام حسين حين يتوعد كل أعداء هذا الإنقلاب بقص الرقاب .
وحتى لا تختلط الأوراق ، وتتداخل ملفات الجرائم ويسهل خلطها بالمشاعر القومية المتأججه التى استعان بها صدام كثيراً للحصول على شرعية نفسيه لحكمه ، سأحاول أن أتحدث بتفصيلٍ ما وبتسلسل تاريخى عن الجرائم التاريخية لصدام ونظامه .
فى عام 1958 ؛ قام مجموعة من الضباط فى الجيش العراقى بإنقلاب على الملك فيصل الثانى ملك العراق وأحد ملوك السلالة الهاشمية ، وإن كنا بصدد تقدير مدى شرعية هذا الإنقلاب فإنه لا يعدو كونه أحد الإنقلابات المتتالية فى الدول العربية التى حدثت فى هذة الفترة ، وكانت تستمد شرعيتها فقط من قوة السلاح وتسمى نفسها ثورات بدون أى سند تعريفى من أى معجم ، وتؤدى إلى صعود العسكريين إلى سدة الحكم فجأةً وبدون أى مقدمات ، غير أن إنقلاب ضباط العراق الأحرار كان يتميز بأنه الأكثر دمويةً وعنفاً ، فقد قام الضباط المتمردون على الشرعية الملكية بتنفيذ إعدام ميدانى فى الملك فيصل الذى كان وقتها عمره 23 عام ، وقُتل معه خاله الأمير عبدالإله وجدته الملكة نفيسة وأميرات أُخَر من البيت الملكى ووصيفات وخدم ، تم قتلهم بوحشية ودونما إنذار بعد أن سلم الملك نفسه تفادياً للعنف ، لكن الإنقلابيون لم يراعوا سلمية الملك الشاب الذى كان يتهيأ للقاء خطيبته صبيحة اليوم الذى قُتل فيه . وبعد هذا الإنقلاب وصل الرئيس عبدالكريم بلقاسم لسدة الحكم ، وبعد عام واحد من الإنقلاب الدموى ، نشبت الفرقة بين الإنقلابيين حتى أن أحد الفرقاء دبر إغتيال الرئيس عبدالكريم بلقاسم ، وقام صدام حسين شخصياً بإخراج سلاحه الرشاش وإطلاق النار على الرئيس وقتله . إذاً فبالنسبة لصدام حسين بداية الأشياء أولها القتل ونهاية الأشياء آخرها القتل .
ساعدت قوة شخصية صدام حسين وعنفه ودمويته فى تركيز دعائم سلطته بين الضباط الذين استولوا على العراق ، حتى أنه عندما أصبح نائب الرئيس فى عهد أحمد حسن البكر عام 1968 لم يلبث أن استولى على السلطة كاملةً ولم يبقْ للرئيس منها إلا بعض الشكليات ، حتى أن البكر اضطر لتقديم استقالته من منصب الرئيس عام 1979 بحجة الظروف الصحية ، وأصبح صدام حسين رئيساً للعراق طبقاً للقواعد العرفية التى أرستها الإنقلابات العربية ؛ حيث يخلف كل رئيس نائبه . فأعلن صدام نفسه رئيساً للجمهورية العراقية ورئيساً لمجلس قيادة الثورة وقائداً أعلى للقوات المسلحة .
وبدأت الحقبة الصدّامية بداية عاطفية خادعة ، شعارات مثل "القانون فوق الجميع" و " انتهى عصر الإعتقال بدون سبب" كانت تتردد كثيراً على مسامع الشعب العراقى ، وربما كان الرجل محقّاً جزئياً ، فقد تم تطويع القانون بحيث يُصبح مناسباً للقتل ، وتم تخفيض حالات الإعتقال لحساب القتل الميدانى والمذابح الجماعية . وعندما كان صدام على رأس الدولة كانت عادة القتل لديه قد تأصلت بالفعل ، حتى أنه كان قد ارتكب بعض الجرائم التمهيدية مثل الإعدامات الجماعية للشيوعيين العراقيين ، حيث أن صدام كان قبلاً رئيس جهاز المخابرات الداخلية لحزب البعث الحاكم ، ومسئولاً عن ملف مطاردة الشيوعيين وتصفيتهم ، وعندما ترنحت سلطة الرئيس البكر وأصبح صدام هو الرئيس الفعلى والبكر رئيس شكلى ؛ قام صدام عام 1978 بعمليات إعدامات جماعية للشيوعيين العراقيين ، كان عدد ضحايا إحدى دفعات هذة العمليات 573 قتيلاً أصدر عنهم الحزب الشيوعى العراقى عام 2012 كتاباً توثيقياً ، إذاً فقد كان صدام مولعاً بالمذابح الجماعية لمن يختلفون عنه فى الرؤية الأيدلوجية حتى قبل توليه السلطة بشكل رسمى .
كتاب توثيقى من الحزب الشيوعى العراقى عن ضحايا إعدامات الشيوعيين |
وبعد أن تولى السلطة رسمياً ؛ ولم يكُن مر على سلطته الجديدة أسبوع واحد ، قرر أن يُصفى المعارضين له من داخل حزبه ، حزب البعث الحاكم ، وكانت هذة التصفية واضحة وصريحة وعلنية أمام شاشات التليفزيون ؛ سأقتلكم ولا أخشى أحدا . وبطريقة مذبحة القلعة قام صدام بجمع قيادات حزب البعث فى اجتماع مفتوح بإحدى القاعات العامة فى بغداد ، وتلى عليهم ورقة يُعلن فيها أنه وجد بعض الجواسيس داخل الحزب وها هى أسماءهم ، ثم تم إقتيادهم إلى خارج القاعة حيث تم إعدامهم فيما بعد ، وبهذا سيطر الطاغية على العراق عن طريق حزب واحد له جناح واحد .
لم تكن المدرسة الفكرية للرجل مختلفة أبداً عن أى من الإنقلابيين العرب ، نظرية المجد الشخصى وصناعة التاريخ كانت تسيطر على عقله بشكل تام ، حتى أنه كان يتحدث كأنه يوجه العبارات للتاريخ فقط ، فبينما كان الشعب العراقى يفقد مشاريع التنمية التى كانت مُجهزة فى عصر الملك فيصل الثانى ، كان صدام يوجه موارد النفط لصناعة الحرب والتوسعات وينفق على مجده الشخصى وصناعة الحقبة الصدّامية ، وبعد أن كان الملك فيصل يخصص 70% من موارد النفط لمجلس إعمار وطنى من أجل رفاهية الشعب العراقى أصبح صدام يوجه هذة الإيرادات لتحدى العالم بمزيد من المفاعلات النووية وإرضاء غروره ، وبعد أن كانت ميزانية الدولة مُعلنه والإقتصاد يتوجه إلى الإزدهار بخطى ثابتة ، أصبح إستنزاف النفط هو الأسلوب السائد ولا وجود لأى تخطيط منهجى .
وأنبه هنا القارئ ؛ إلى عدم تلقى جرائم القتل كأنها عادية ، فعندما نتحدث عن قتيل واحد فى النظام الصدامى فنحن بصدد أسرة فقدت أحد أفرادها ، وأم أصبحت تبكى وزوجة ترملت وأطفال نشأوا بلا أب ، فما بالك إن كان القتلى بالآلاف ، كم عائلة عراقية باتت حزينة باكية حتى يوطد صدام حسين أركان ملكه . إذا سمعت من يتحدث عن بطولة صدام حسين يجب أن لا تنسى الذين تدلوا من المشانق فى عهده ، تذكر القتلى وعائلاتهم والمعتقلين وضياعهم فى السجون .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تعليقك لازم يكون مفيد، الشكر وإبداء الإعجاب أمور غير مفيدة.