تقول الأسطورة أن ملكاً أراد أن يرى لوحة تمثل التناقض التام بين الخير والشر ، فأمر أعظم فنان فى عصره أن يرسم هذة اللوحة ، واشترط عليه أن تكون معبرة تماماً وله من الوقت ما شاء حتى يتمها ، احتار الرسام كثيراً ، لكنه قرر أن يرسم لوحة لشخصين أحدهما الخير والآخر الشر ، وبينما يسير رأى طفلاً جميلاً تبدو على ملامحه السكينة والهدوء ، فأتم رسم الطفل ، ثم أخذ يفتش عن إنسان لديه من السوء الأخلاقى والخِلقى ما يؤهله ليمثل الشر المطلق ، وطالت مدة بحثه إلى عشرين سنة ، ثم وجد شاباً سكيراً ممزق الملابس يكسب قوته من سرقة ما فى جيوب الآخرين ويدمن الخمر والمقامرة ، طلب منه الرسام أن يرسمه ، فبكى الشاب وقال له "من عشرين سنة طلب منى رسام أن يرسمنى ، كنت طفلاً" .
هذة القصة أسطورية بالطبع ، ولكن لنلتفت إلى فكرتها قليلاً ، إنها التحولات التى تحدث للبشر فتحولهم من الأقصى إلى الأقصى ، من بشر طبيعين لهم سلوكيات طبيعية إلى عكس ذالك ، عندما حدثت كارثة قطار أسيوط وخرج الدكتور عصام العريان ليستغل الموقف منادياً "أين البرلمان ؟" ، قال لى أحد المناضلين القدامى من جيل العريان أن شباب الجماعة مثل العريان والبلتاجى بل ومحمد بديع نفسه ومحمد مرسى ؛ كانوا طلاباً مناضلين ، من النوع الذى قد يفترش الأرض إعتصاماً لو سمع أن إدارة الجامعة قد أهانت أحد الطلاب بغض النظر عن إنتماؤه السياسى ، وأضاف متعجباً "ما الذى جعله حقيراً وإنتهازياً إلى هذا الحد ؟" .
لا أناقش هُنا قضية خاصة أو مسألة سياسية ، وإنما أريد أن نلتفت لهذة الحالة العامة من التغيرات الجذرية التى تحدث للبشر ، النظرة السطحية التى تميل إلى عدم المسئولية تُرجع هذة التغيرات عادةً إلى لفظ متميع مجهول الهوية اسمه "الزمن" ، كأن الزمن هذا هو وحش طويل الأنياب يلتهم الأخلاقيين ويحولهم إلى مجموعة من الإنتهازيين الحقراء ، والعجيب أنه حتى بتغير هذا الزمن تظل مسئولية أخلاق الأفراد ملقاة على عاتقه ؛ من مئات السنين وفى عصر الإمام الشافعى كان البشر يلقون بمسئولية أخلاقهم على الزمن فقال لهم الشافعى "نعيب زماننا والعيب فينا" ، وحتى الآن استمر الزمن هو المتهم الأول ، وبقليل من التحليل سنجد أن الزمن هنا هو لفظ إصطلاحى يقصد به قائله المجتمع ، فهو يقول أن الزمن ـ أى المجتمع ـ وليس الأفراد مسئول عن هذة النقلة الأخلاقية ، لكن المجتمع عبارة عن مكون مادى غير عاقل ومكون بشرى ، ولو افترضنا أن المكون البشرى غير مسئول عن تغير أخلاقه فإننا نقول أن الأرض والشجر والأحجار هى التى تتلاعب بأخلاقنا ، كأننا نقول "أنا لم أصبح سيئاً إلا بسبب هذة الشجرة" ، وهو ما لايُعقل بأى حال من الأحوال ، لذالك فإن نغمة "الزمن الغادر السئ الشرير" ليست إلا شماعة كبيرة .
وربما هو ليس تحول وإنما نزعة شر موجودة فى الأصل وكامنة وتنتظر فقط الفرصة المناسبة للظهور ، ويُقال أن الطلاب الجامعيين الأكثر إلتزاماً مع المُحاضرين يُتحولون إلى الإستبداد والسادية لو انقلبت الأمور وأصبح هؤلاء الطلاب مُحاضرين يوماً ما ، ويُقال أيضاً أن الأقليات المضطهدة ستمارس نفس الأفعال التى تُمارس عليها إن امتلكت القوة ، ويُقال أن الثوار الذين يخرجون للمناداة بالحرية والعدالة سيصبحون هم أول من يقمع هذة القيم عندما يمتلكون السلطة ، وهذة النظرة ليس لها دليل واقعى حاسم ، وإنما هى مجرد إفتراضات ورقية وإن كانت بعض الأحداث المُدلِلة قد وقعت بالفعل ، مثلاً الثورة العسكرية التى قامت بها حركة التحرير الإريترية وكان من مبادئها بناء دولة قوية تقوم على العدل والحرية والمساواة ، ورغم أن أعضاء هذة الحركة كانوا ـ يبدو عليهم ـ على استعداد لدفع حياتهم ثمناً لهذة المبادئ ، إلا أنه بعد الإنتصار والوصول للسلطة فى أوائل التسعينات تغيرت الإستراتيجية تماماً ، حتى أن إريتريا الآن هى الدولة الأخيرة فى تصنيف الحريات حول العالم ، ولا نقابات ولا هيئات حكومية ولا أى أثر لدولة . ومن إريتريا نعبر النيل إلى مصر ، لنجد الإسلاميين الذين ناضلوا فى معتقلات عبدالناصر والسادات ، وكان لسانهم يلهج بالحديث عن العدل والمساواة والدولة العادلة ، لكن كل هذا تغير تماماً بعد وصولهم للسلطة ولا أريد أن أسهب فى الحديث عن هذا التغير الذى لا يخفى على أحد ، هل كانوا ملائكة وتحولوا إلى شياطين أم أنهم كانوا شياطيناً من الأصل ثم ظهرت حقيقتهم فى الوقت المناسب ، سؤال موجه لعقل القارئ ، وقبل أن أترك هذة النقطة لابد أن أورد المثال الأكثر وضوحاً حول هذة الحالة ، الثورة الإسلامية الإيرانية ، قبل هذا الحدث التقى شيوعى وإسلامى فى سجون الشاه حاكم إيران ، فقال الإسلامى للشيوعى "لن يُظلم أحد فى ظل الدولة الإسلامية" ، وشاء القدر أن يكون هذا الإسلامى الذى أطلق الوعد العظيم بأن "لن يُظلم أحد" هو الإمام الخومينى نفسه ، والشيوعى الذى استمع إليه وصدقه أصبح من الدفعة الأولى التى نُفذ فيها حكم الإعدام بعد الثورة الإسلامية ، إنها مُعضلة الملائكة والشياطين .
وإن كان هذا صحيحاً ، وإن صحّت أسطورة مستر جيكل ودكتور هايد بأن داخل كل إنسان إزدواج ما من الخير والشر ، فإن الثقافة يجب أن تُنظم هذا الإزدواج وتكبح جماح الرغبات الشريرة داخل النفس البشرية ، لا تجعلوا الشيطان الكامن ـ إن إفترضنا وجوده ـ يطغى على الإنسان الأخلاقى ، وهذا أقصى ما يمكن أن تصل إليه فى إصلاح ذاتك قبل إصلاح العالم ، أما المتحولين الذين أصبحوا بالفعل مقززين ولزجين ، فرفقاً بهم حتى يجد علماء السيكولوجى السبب القاطع لهذة النقلة العقلية التى حدثت لتصرفاتهم ، وربما يؤدى البحث العلمى إلى تجنب نشأة هتلر آخر ، أو عصام العريان آخر .
إعدام الليدى جين غراي ـ بول دولاروش ـ من ويكيميديا
إعدام الليدى جين غراي ـ بول دولاروش ـ من ويكيميديا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تعليقك لازم يكون مفيد، الشكر وإبداء الإعجاب أمور غير مفيدة.