أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبدالصمد الجعفى أبوالطيب الكندى ، شهرته
أبوالطيب المتنبى ، التصق به اللقب بعد أن قيل عنه إدّعاءُه النبوة ، يتحدث كثيرون
عن نسبه العريق الضارب فى أشرف الأصول ، وهو ما لم يؤكده المتنبى فى حياته أبداً
بل حرص على جعله سراً غامضاً وإن لمح له فى بعض المرات ، مثلاً عندما قال :
"سيعلمُ الجمعُ ممن ضمَّ مجلسنا .. بأننى خيرُ من تسعى بهِ قدمُ"
ويذهب البعض إلى نسبته لأهل العترة الشريفة من نسل الرسول الكريم ،
وربما كان فى ذالك بعض المغالاة من مُحبّى الشاعر الفذ . ولد فى الكوفة بعد الهجرة النبوية بثلاثة قرون ؛ وأتى ليجد الأرض مهيأةً تماماً لإستقبال الشاعر
الفاتح ، العرب متفرقون ، كل أمير مستقل بدولته يبحث عن من يكتب اسمه فى كتاب
التاريخ ، التنافس على الشعراء فى أشده ، والتنافس بين الشعراء على أشده ، نظم
أحمد بن الحسين المتنبى شعراً وهو بعد لم يبلغ أشده ، فكتب أول ما كتب وهو فى
التاسعة من عمره .
المرأة التى أنجبت شاعر العرب ، ماتت فى طفولته ، فلم تترك أثراً
يُذكر فى مخيلته ؛ ربته جدته لأمه . وبدأت حياته الأدبية الإحترافية بشكل مبكر
عندما رحل فى الثانية عشرة من عمره إلى بادية السماوة ليدرس اللغة العربية بين
أهليها ، وكانت عادة أشراف العرب أن يرسلوا أبنائهم لأهل المدر "البادية" ليتعلموا الفصحى التى لم تخالطها لكنة الفرس ولا الروم ،
وبعدها بعامين اتجه إلى عاصمة الزخم الثقافى العربى فى هذا الوقت ، مقر الخلافة
وأصل الأفكار والملل والإتجاهات الأدبية والفلسفية ؛ بغداد . مكث فيها عاماً حتى
أتم الخامسة عشرة ، ثم بدأ التنقل الذى استمر حتى نهاية حياته ، فتقاذفته المدن
العربية ، حتى لتكاد تشعر أنه انتمى إليها جميعاً ، رضع من كل أثداء العرب ، شرب
من كل آبار العرب ، احتضنته دمشق ومصر وحلب وكثير من مدن الشام ، اختلط بالأعراب
وعاش معهم واختلط بالمنعمين فى القصور وأصبح منهم ، تشرّد وتصعلك وتأمّر وتنعّم ،
أصبح حكيماً من فرط التجارب ، وجرّب السجن .
وعن سجن المتنبى ، يمكننا أن نحكى كثيراً ، ويمكننا أن نستمع لمؤرخين
كثر تضاربت أقوالهم ، لكن الأرجح ـ ما أرجحه أنا ـ هو أن الحكام شعروا بخطر الرجل
وإتساع أفق طموحه وإمتداد مخيلته إلى سلطانهم وعروشهم ، فلفقوا له تهمة إدعاء
النبوة ، وفى ظنى أنها تهمة باطلة كل البطلان ، وعندى فى ذالك إدعاءات ، أقول
مثلاً أن المتنبى العاقل الرزين العالم الرحالة المتبحّر فى فهم الطبيعة العربية ،
العالم ببطش حكام العرب وسيطرة الفقهاء على عروشهم ، لم يكن ليخاطر بإدعاء النبوة
، وجُل ما ينسب إليه من أقوال فى هذا الجانب ليس لها تحقيق تاريخى يمكننا أن
نثق به ، ربما قال الرجل أن مقامه كمقام المسيح بين اليهود ، وفى هذا تعظيم للذات
وإحتقار للمحيطين ، أليس هذا الشعور هو أحد أركان شخصية الرجل أصلاً ؟ ما الجديد
إذاً ؟! ، وهناك بعض الأبيات التى تُنسب إليه منها :
أى مجال أرتقى .. أى عظيم أتقى
وكل ما خلق الله .. وما لم يخلقِ
مُحتقرٌ فى همتى .. كشعرة فى مفرقى
حسناً ولو افترضنا أنه قال تلكم الأبيات ، أو قال أكثر منها ، أين
إدعاء النبوة ؟ .. ويجب أن نلحظ شيئاً هاماً ، المتنبى لم يكن كذاباً أو أفاقاً ،
لقد كان عربيّاً اصيلاً عاش فى البادية وتربى فى بيوت الشرف ، حتى أنه لم يُطق
النفاق الإجتماعى السائد فى عصره والذى كان مصدر عيش الشعراء ، فما مدح سيف الدولة
إلا لأنه أراد مدحة ، وعندما اكتشف شخصية كافور الحقيقية هجاه بأشد الكلمات
وأقذعها ، بينما لم ينقلب بنفس الشكل على سيف الدولة عندما فرق بينهما الوشاة ،
إذاً فلم يكن الرجل قبيحاً أو كذّاباَ ، ولا يليق أن ننسب إلى عقله أو أخلاقه
إدعاء النبوة ، لكنهُ على كل حال جرّب السجن بتهمة التنبؤ ، ألقاه فيه لؤلؤة والى
حمص من قبل الإخشيد ، ثم أخرجه منه بعد أن انكسرت فى نفس الشاعر أشياء ، وتكوّنت
أشياء ، خرج أقل ميلاً للخلود الوقتى وأكثر عزماً على الخلود الأبدى .
وكما أن السجن محطة جعلت الشاعر يستفيد من نفسه ، ويختلى بشخصيته
القويّة ويتعلم منها ، فهناك محطة أخرى سبقتها مكّنته من تكوين هذة الشخصية وصقل
فلسفتها ؛ أبوالفضل الكوفى وهو أحد الشخصيات الفلسفية البارزة فى عصر نشأة
المتنبى ، وأول من هداه إلى كتب الفلسفة اليونانية كما أشار أدونيس فى كتابه
"الكتاب" وبالطبع كان المتنبى على إلمام واسع بهذة الفلسفات ،
ويظهر ذالك جليّاً فى كتاباته عن الحكمة .
وللشاعر أيدى طوال فى المديح ، ورفع القامات وخلق البطولات لممدوحيه
، حتى أنه خلق لسيف الدولة الحمدانى أسطورة متكاملة من البطولات تم نسجها من أبيات
المتنبى ، ولا يسجل التاريخ لسيف الدولة إلا أنه كان أحد الأمراء الكثيرين فى تلك
الفترة ، لكن ما يورده المتنبى فى أشعاره يحكى أمجاداً عريضة وصفات نبيلة ، وتُجمع
القصائد التى كتبها عن سيف الدولة تحت اسم "السيفيات" ؛ ومنها :
"لكل
امرئ من دهره ما تعودا .. وعادة سيف الدولة الطعن فى العدى"
وإن كان الشاعر كما يرفع يضع ، فإن المتنبى امتاز بنبل الأخلاق من
هذة الناحية ، فلم ينقلب على سيف الدولة إنقلاباً تاماً عندما أدار له الأمير قلبه
، فعاتبه عتاباً رقيقاً وهو يرحل عنه ، عكس ما فعله مع كافور الإخشيدى مثلاً الذى
سارع المتنبى إلى هجاءه والتعريض بأصله كعبد مملوك ، مما يدل على أن علاقة سيف
الدولة بشخص المتنبى كانت قائمة على الإحترام والتقدير وليست كعلاقة أى أمير بشاعر
ما فى بلاطه .
وفى الهجاء ، أطلق أسهماً نافذات ، خلقت له المزيد والمزيد من
الأعداء ، وبشكل خاص كان يضيق ذرعاً بالشعراء المنافسين له ، ويراهم من الإنحطاط
بمكان حتى أن مقارنته بهم لا تصح ، فقال مثلاً :
"أفى
كل يومِ أٌبتلى بشويعرِ .. ضعيف يقاومنى قصير يطاول"
وقال فى أحد الأدعياء ، متهماً إياه بأنه استسهل الهجاء لضعف موهبته
، لكن حتى الهجاء هو صعب على من مثله :
"صغرت
على المديح فقلت أهجى .. كأنك ما صغرت عن الهجاء"
وعن الفكر العقائدى للشاعر ، يمكننا القول أن فلسفة المتنبى ، وحكمته
، ونشأته ، وطموحاته وأشعاره وتقلبات الزمن عليه ، كل هذا الخليط شكّل العقيدة
الدينية للمتنبى ، وهذة العقيدة المشكوك فيها تتراوح فى أكثر الآراء تطرفّاً إلى
الكفر الصريح وإدعاء النبوة ، وفى أكثرها تساهلاً إلى الورع والتقوى، وما بينهما
يُقال عن المتنبى أنه أحد دعاة الحركة القرمطية "فرقة منشقة عن الشيعة
الفاطميين" ، وهو رأى لا يمكن إغفاله لأنه ورد من ناحية الدكتور طه حسين .
والثابت أنه كان شيعيّاً على الأقل ، ويُقال أيضاً أنه كان أحد دعاة المذاهب
الباطنية ، وكان ذا شأن فى هذة الدعوة حتى كان يُلقّب بالإمام وله مريدين كُثُر .
لكن على أى حال ؛ لم يكن المتنبى محتاجاً لمريدين يتخذون منه إماماً دينيّاً ، فقد
كان إمام الشعراء ، وغاية أى بلاط ملكى أن يحظى بشاعر مثله ، وكان إمام عظماء
الأدب العربى بلا شريك . هذا الرجل الذى قاتل الجميع وانتصر ، كان فى زمن سباق
محموم تجاه الخلود ، سبقهم جميعاً ، فلم يُذكر سواه ، ومن ذُكروا كان لأنهم
محظوظين لدرجة تلاقى نقطة من حياتهم مع حياة المتنبى ، حتى سيف الدولة الحمدانى
الأمير المُنعّم لم يُذكر اسمه فى التاريخ إلا لأن المتنبى أراد لهُ ذالك .
وبكل هذا يمكن إعتبار المتنبى هو الصورة المُكبّرة والمُركّزة
للإنسان العربى ، بكل ما فيه من كبرياء وشعور بالذات ، بكل ما فى جيناته من ترحال
وطموح ، وما يحمله من تقلبات نفسيّة ، وربما كان هذا هو ما كفل للشاعر خلوده الذى
لا يُضاهى ، فهو يستمد طاقة الإستمرار من طاقة وجود العرب أصلاً ، فهو رجلهم الذى
نصّبوه شاعرهم ، ومنصب الشاعر عند العرب يعنى الكثير ، فهو مرآتهم وسفيرهم ،
إحساسهم وكلمتهم .
قُتل الشاعر المُعجِز فى حادثة لا تقل غموضاً عن مكامن عظمته ، يُقال
أن من قتله هو فاتك الأسدى خال ضبة الأسدى الذى كان المتنبى قد هجاه من قَبل ،
وتورد فى ذالك قصة البيت الذى قتل صاحبه ، حيث يُحكى أنه أراد الهرب فقال له ابنه
"ألست القائل : الخيل والليل والبيداء تعرفنى والسيف والرمح والقرطاس والقلم
؟" ، فقال له المتنبى "قتلتنى قتلك الله" وصمد حتى أطاحت به ضربة
سيف . ويعتقد آخرون أن دولة بنى بويه التى سبق أن مَدَحَ حاكمها عضد الدولة
البويهى ؛ قد دبرت إغتياله للتخلص من كتلة الطموح التى تمشى على قدمين هذة ،
وتنتهى حياة الجسد وتبدأ رحلة الخلود ، ولا أعتقد أنها ستنتهى أبداً .
طالب الحقيقة ....سلام عليكم
ردحذف