الجنة فى الإعتقاد الإسلامى هى المكان الطبيعى الذى يذهب
إليه الصالحون فى الدنيا عند إنتقالهم لمرحلة ما بعد الموت أو الفناء الجسدى الغير
مرتبط بالفناء الحقيقى ، الذى هو فى الشريعة الإسلامية ظاهرة غير موجودة والجنة
بهذا المعنى هى مرحلة من مراحل الحياة بالنسبة للمسلمين الصالحين الذين تتوافق
أعمالهم فى الدنيا مع مبادئ الشريعة الإسلامية .
ولكن الوصف الدقيق للجنة لم يتلق
أى إجماع ممكن من قبل علماء الدين الإسلامى ، نظرا لتعذر الحصول على هذا الوصف من
مصادر الشريعة الأساسية التى هى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، وبوضع هذة
النقطة فى الإعتبار ؛ ونضيف عليها حقيقة أن الإسلام يصنف كدين يحض على الحرية
العقلية ويدعو أتباعه إلى استخدام العقل ، الذى هو الميزة الفارقة بينهم وبين
الكائنات الغير بشرية والجمادات .
وهو مانطقت به صراحة الكثير من الآيات القرآنية
التى تحض على التفكر والتدبر فى خلق الله ، والجنة لأنها جزء من خلق الله هى مجال
خصب لإعمال العقل من أجل التوصل إلى ماهيتها التى هى بالتأكيد لن يصل إليها أى
بشرى بوجه قطعى وما التوصيفات إلا إحتمالات قد تصيب وربما تخطىء ، ومعيار الصواب
والخطأ هو بالتأكيد الموافقة للعقل البشرى الذى هو مطابق فى كيفية عمله لتوجيهات
الدين الإسلامى .
وبالبدء ننوه إلى نقطه أنا أعتبرها شديدة الأهمية بحيث لا يمكن
إغفالها ، أن ما ورد من آيات قرآنية فى وصف الجنة بإحتوائها على حور عين ومتع حسية
أخرى لا يمكن إعتبارها آيات محكمات تنضوى تحت لواء أم الكتاب وإنما هى مما يمكن
تصنيفه كمتشابهات ، وذالك فى إطار الآية القرآنية التى تقسم آى القرآن إلى محكم يجب
الأخذ به بشكل قطعى وأخر متشابهات ، والآيات التى تدعو للتفكر هى آيات محكمات ،
إذا فنحن أمام موقف هام ، آيات متشابهات تصف الجنة وأخر محكمات تدعو لإعمال العقل
، إذاً فمن البديهى أن نعمل على إعمال المحكم للتوصل إلى ماهية المتشابه أى
إستخدام العقل للتفكر فى ماهية الجنة .
وهذه نقطة شديدة الأهمية لكى نعمل فكريا
دون شعور بالولوج فى ماحرم الله ولكى نزيح عن ضمائرنا الشبهة التى لطالما رددها
بعض مدعيي العلم الدينى من أن التفكير فى أسس الشريعة هو حرام شرعاً أو قد يؤدى
إلى الردة عن الدين ، فإن كان التفكير يؤدى إلى الردة فكيف اسلم إذاً أعظم
المفكرين فى العالم بعد تفكرهم فى الإسلام ، وكيف يصبح الدين الإسلامى الذى هو دين
عقلى يدعو إلى إعمال العقل كيف يدعو إتباعة إلى الإتباع الأعمى ويحذرهم من التفكير
فى مبادئ الشريعة ، والإدعاء بأن المسلم يجب أن يوقف تفكيره عند التوصل لمراحل
فكرية معينة لهو الكذب الصراح والغباء الأعمى والرجعية الحمقاء .
وننتهى من هذه
الفكرة لنخلص منها إلى موضوعنا الأساسى وهو الجنة ؛ هذه الكلمة الغير معرفة بدقة
فى قواميسنا العقلية إلا بمجموعة من الأوصاف الروحانية التى لا تسعفنا كثيراً أو
قليلاً عند محاولة تحويلها إلى تخيل واقعى يمكن تصورة من قبل أى إنسان طبيعى بمجرد
وصفه ، وهذا الوصف فى جل ما وصلت إليه كتب
التراث الإسلامى هو وصفة بإستحالة الوصف الدقيق ، مالاعين رأت ولا أذن سمعت ولا
خطر على قلب بشر ، وقد نتوقف عند هذه الكلمات قليلاً ناظرين لإيحاءاتها ، وقد نتوقف عندها كثيراً محاولين التوصل إلى
مدلولات هذه الإيحاءات ، فكيف لا يمكن تصورها بالعقل البشرى المجرد إن كانت آيات
قرآنية كريمة قد قربت إلينا الوصف عن طريق سرد بعض ما فى الجنة من متع حسية مثل
الحور العين والأطعمة الشهية !
وبداية التفكير المتجه للحقيقة هى من هذه الكلمة
الصغيرة ذات أعظم المدلولات ، "قربت" ، فالوصف الإلهى هو تقريب
للمواصفات لكى يوفر للبشر السبل اللازمة للتعلق القلبى بالجنة والرغبة فى الوصول إليها
، ولكنه يبقى تقريباً ، وإن علمنا أن العلم الحديث لم يتطور تطوراً سريعاً إلا فى
القرون الخمس الأخيرة ، أى بعد الوصف القرآنى بمئات السنين ، فمعظم الإكتشافات
العقلية والنظريات الفكرية والتفكير العلمى الممنهج المنظم لم تكن متاحة للبشر
الذين نزل إليهم القرآن مخاطباً ، فالذات الإلهية (عز وجل ) المدرك المحيط بكل
خبايا البشر وأفكارهم لا تستوى قدرته وحكمته أن ينزل قرآناً إلى بشر لم يصلوا بعد
إلى الأسلوب التفكيرى العلمى المعقد ولم يتحولوا إلى مذاهب فكرية أو تيارات عقلية
متخصصة فى فنون التفكير ، لا يمكن أن ينزل إليهم قرآناً يسوق إليهم حقائق أو صفات
قد لا تصل إليهم بشكلها المرغوب ، فالله الحكيم عندما يسرد صفات الجنة فإنه يضعها
فى الإطار الذى يمكن تقبله بواسطة قوم عرب تتجلى المتعه الروحية عندهم فى الصلاة
والنظر إلى وجه الله الكريم وتتجلى المتعة الحسية عندهم فى الملذات الجسدية كالجنس
أو الطعام ، أى بمعنى آخر أن الله الحكيم يقرب الصورة إلى المتلقين بما يناسب
عقولهم ويتفق مع الواقع ، وهذا يتطابق مع صفات الله الواجبة له من حيث الحكمة
والقدرة ، فمثلاً الله العلى لم يذكر فى القرآن أى أرقام أكبر من الألف ومضاعفاتها
، مائة ألف وعشرون ألفاً ، رغم أن الله المحيط مدرك بالضرورة لوجود أرقام كالمليون
أو المليار ، ولكن الله الحكيم مدرك أن جل ما وصل إليه العرب فى الحساب فى هذا
الوقت هو الألف ومضاعفاتها فقرب الصورة إلى الأذهان العربية المتلقية للكتاب
المحكم بما يتفق مع الحكمة والمقدرة الإلهية ولذا عندما حدد الله قدر ليلة القدر
بألف شهر فهذا ينطبق تحت نفس القاعدى ، فالألف هى قمة ما وصل إلية العرب وأى رقم
آخر هو من المضاعفات .
ولا أحسب أن وصف الجنة بإحتوائها على متع حسية من حور عين
وغيرها وأطعمة وسواها إلا من باب تقريب صور المتعه الحسية والروحية إلى العقل
البشرى الطبيعى الذى تتجلى عنده المتع الحسية والروحية فى أطر معينة ، فيجب أن
ندرك أن ما أعده الله لعباده من نعيم فى الجنة هو النعيم المطلق ، أى الغير مقيد
بمسببات ، ففى الحياة الدنيا تقاس المتعة بمقدار جودة المسبب للمتعة أى مثلاً يقاس مدى إستمتاعك بالطعام بمدى جودة
مذاق هذا الطعام ، ولكن فى الجنة لا داعى للمسببات ، فأنت تحصل على المتعة المطلقة
بمجرد تجلى المشيئة الإلهية فيها أى بلا مسببات ، وإن علمنا أن المتع الحسية
جميعها هى متكاملة سوياً لتجسد معاً صورة المتعة الحسية الواحدة العظيمة ، فهذه
المتعة الحسية الواحدة العظيمة هى بالضبط ما تحصل علية فى الجنة بلا مسببات وإنما
بأمر إلهى مطلق ، وقد يتبادر إلى الذهن أن الإله القادر فى هذه الدنيا يعمل على
تسبيب الأسباب لحدوث المقدرات ، ولكن يجب أن نعى أن هذا لا ينطبق على التصرفات
الإلهية التى تتخطى حاجز عالمنا المحسوس ، فالله عندما يريد شىء إنما يقول له كن
فيكون ، أى بلا مسببات ، وإنما أوجد المسببات فى الدنيا كى تتوافق مع عقولنا
القاصرة التى لا تتكيف مع تنفيذ المقدرات
بلا سوابق منطقية ، فالله فى الدنيا يمنحك طعاماً لكى تحس بالمتعة الحسية من
الطعام ، لكن فى الجنة الله القادر يتجاوز عن المسببات لكى تنطلق متعنا الحسية
فنحصل على متعة الطعام الحسية بصورة أعلى بدون أن نضطر إلى اللجوء للمسبب .
وهذا
ينطبق أيضاً على باقى المتع الحسية كالجنس ، وأيضاً على الشقاء فى النار ، فالعصاة
ينالون الشقاء الدائم دون حاجة لمسببات هذا الشقاء ، فالله القادر فى الدنيا قد
يسوق عليك شخص ما ليؤلمك جسدياً ( مسبب ) فتحس بالعذاب الجسدى ، ولكن فى الآخرة
يتجاوز عن المسببات فتحصل على العذاب فى صورة أعلى وأكثر تجريداً دون مسبب ، فالله
يتجاوز عن المسببات فى مابعد حياتنا الدنيا ، والخلاصة أن التوصيفات الإلهية للجنة
هى تقريب للعقل البشرى المتلقى للقرآن بحيث تحصيل على التصديق من هذا العقل الذى
لا يؤمن إلا بالمسببات وراء الأسباب .