الاثنين، 11 نوفمبر 2013

الشيء المُعتاد

مؤخراً، بدأت محاولات مضنية لابتذال كل شيء مهما بدا عظيماً أو مؤثراً، كل شيء بدأ يتجه إلى الرخص والإسفاف في مخيلتي وإن لم يفعل أجره إليهم جرَّاً، أحس نفسي كالذي يسحب كل الأشياء الجميلة إلى حافة القبح رغماً عنها بكل سعادة وشر وتهور وجنون. لقد انهارت الصخرة التي كانت تحافظ على تماسك سد الرقي، بدأ عصر الانحطاط والضياع، لا معنى للاشياء ولا هدف ولا مبرر للرغبات الحقيقية.

الحب المبتذل أكثر إمتاعاً وجمالاً مما يبدو عليه، تكرار العبارات الركيكة المملة شيء ساحر فعلاً، الإنهماك في التصنع يخلق في النفس حالة من اعتياد التكرار والتآلف معاه، التناغم مع رخص هذا العالم وعشوائيته وحقارته وابتذاله يجعلك أقرب للطبيعة، فإطارات المرايا والصالونات المذهبة والملاعق الفضية تتلاشى ضعةً وتهالكاً أمام الكراسي الدوَّارة والملاعق البلاستيكية، في قلب كل ما هو بسيط وتافه تنتظرك السعادة.

فكلما كانت الاشياء أكثر ابتذالاً كلما كان التخلي عنها أكثر سهولةً وأقل دراميةً وحزناً. يمكنني إنهاء علاقة رخيصة بسرعة، عكس العلاقات القوية والمتشابكة المتوحشة التي تسفك الدماء وتقطع الرقاب وتهلك جدران الشرايين. الأطعمة السريعة تمنح الجسم ما يحتاجه من طاقة بسرعة وهدوء وبدون ضجة أو افتعال، لا تكذب عليك مدعيةً العظمة ولا تقدم نفسها في أطباق ذهبية، بعكس الأطعمة المنزلية المغرورة المدَّعية التي لا تقدم في النهاية إلا قليل من الطعم الجيد وكثير من الكلام الفارغ.

يجب أن نعلم ابناءنا الابتذال، أن لا يتركوا الاشياء تتعاظم أمام أعينهم دون أن يكسروها، لا يتركوا الحكام يتضخموا وينتفخوا كي يتحولوا إلى ديكتاتورات غاشمين .. إذا ابتذلنا الحاكم مبكراً فلا مجال لنشوء الطاغية. وكذا لو ابتذلنا الحبيب العشيق فلا مجال للمزيد المتزايد من الألم الغير مبرر، يجب أن تخضع كل الأمور للسخرية والترخيص والتهوين وإطلاق النكات والشتائم حتى تفقد معناها الحقيقي والجوهري فلا تصبح بعد ذالك إلا غطاءاً كرتونياً.

في القاع يبدو كل شيء جميلاً بصدق أو قبيحاً بصدق، لا شيء يكذب أبداً، في القاع يمكنك رؤية القمة بوضوح، استكشاف ملامح ضعفها وقوتها بكل حيادية وموضوعية دونما تهويل أو تهوين. في القاع يتساوى الجميع ولا يتعالى أحدهم على الآخر، في القاع تنظر لمن في القمة نظرة إشفاق وسخرية ولا ترى فيهم إلا هياكل فارغة. بينما أهل القاع ساكنون مطمئنون إلى أنفسهم يعلمون جيداً أن أحداً لن يسلب منهم ابتذالهم.

الرخص والإسفاف