الخميس، 8 أغسطس 2013

أبوالطيب المتنبى

أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبدالصمد الجعفى أبوالطيب الكندى ، شهرته أبوالطيب المتنبى ، التصق به اللقب بعد أن قيل عنه إدّعاءُه النبوة ، يتحدث كثيرون عن نسبه العريق الضارب فى أشرف الأصول ، وهو ما لم يؤكده المتنبى فى حياته أبداً بل حرص على جعله سراً غامضاً وإن لمح له فى بعض المرات ، مثلاً عندما قال :

 "سيعلمُ الجمعُ ممن ضمَّ مجلسنا .. بأننى خيرُ من تسعى بهِ قدمُ"

ويذهب البعض إلى نسبته لأهل العترة الشريفة من نسل الرسول الكريم ، وربما كان فى ذالك بعض المغالاة من مُحبّى الشاعر الفذ . ولد فى الكوفة بعد الهجرة النبوية بثلاثة قرون ؛ وأتى ليجد الأرض مهيأةً تماماً لإستقبال الشاعر الفاتح ، العرب متفرقون ، كل أمير مستقل بدولته يبحث عن من يكتب اسمه فى كتاب التاريخ ، التنافس على الشعراء فى أشده ، والتنافس بين الشعراء على أشده ، نظم أحمد بن الحسين المتنبى شعراً وهو بعد لم يبلغ أشده ، فكتب أول ما كتب وهو فى التاسعة من عمره .

المرأة التى أنجبت شاعر العرب ، ماتت فى طفولته ، فلم تترك أثراً يُذكر فى مخيلته ؛ ربته جدته لأمه . وبدأت حياته الأدبية الإحترافية بشكل مبكر عندما رحل فى الثانية عشرة من عمره إلى بادية السماوة ليدرس اللغة العربية بين أهليها ، وكانت عادة أشراف العرب أن يرسلوا أبنائهم لأهل المدر "البادية" ليتعلموا الفصحى التى لم تخالطها لكنة الفرس ولا الروم ، وبعدها بعامين اتجه إلى عاصمة الزخم الثقافى العربى فى هذا الوقت ، مقر الخلافة وأصل الأفكار والملل والإتجاهات الأدبية والفلسفية ؛ بغداد . مكث فيها عاماً حتى أتم الخامسة عشرة ، ثم بدأ التنقل الذى استمر حتى نهاية حياته ، فتقاذفته المدن العربية ، حتى لتكاد تشعر أنه انتمى إليها جميعاً ، رضع من كل أثداء العرب ، شرب من كل آبار العرب ، احتضنته دمشق ومصر وحلب وكثير من مدن الشام ، اختلط بالأعراب وعاش معهم واختلط بالمنعمين فى القصور وأصبح منهم ، تشرّد وتصعلك وتأمّر وتنعّم ، أصبح حكيماً من فرط التجارب ، وجرّب السجن .

وعن سجن المتنبى ، يمكننا أن نحكى كثيراً ، ويمكننا أن نستمع لمؤرخين كثر تضاربت أقوالهم ، لكن الأرجح ـ ما أرجحه أنا ـ هو أن الحكام شعروا بخطر الرجل وإتساع أفق طموحه وإمتداد مخيلته إلى سلطانهم وعروشهم ، فلفقوا له تهمة إدعاء النبوة ، وفى ظنى أنها تهمة باطلة كل البطلان ، وعندى فى ذالك إدعاءات ، أقول مثلاً أن المتنبى العاقل الرزين العالم الرحالة المتبحّر فى فهم الطبيعة العربية ، العالم ببطش حكام العرب وسيطرة الفقهاء على عروشهم ، لم يكن ليخاطر بإدعاء النبوة ، وجُل ما ينسب إليه من أقوال فى هذا الجانب  ليس لها تحقيق تاريخى يمكننا أن نثق به ، ربما قال الرجل أن مقامه كمقام المسيح بين اليهود ، وفى هذا تعظيم للذات وإحتقار للمحيطين ، أليس هذا الشعور هو أحد أركان شخصية الرجل أصلاً ؟ ما الجديد إذاً ؟! ، وهناك بعض الأبيات التى تُنسب إليه منها :

أى مجال أرتقى .. أى عظيم أتقى

وكل ما خلق الله .. وما لم يخلقِ

مُحتقرٌ فى همتى .. كشعرة فى مفرقى

حسناً ولو افترضنا أنه قال تلكم الأبيات ، أو قال أكثر منها ، أين إدعاء النبوة ؟ .. ويجب أن نلحظ شيئاً هاماً ، المتنبى لم يكن كذاباً أو أفاقاً ، لقد كان عربيّاً اصيلاً عاش فى البادية وتربى فى بيوت الشرف ، حتى أنه لم يُطق النفاق الإجتماعى السائد فى عصره والذى كان مصدر عيش الشعراء ، فما مدح سيف الدولة إلا لأنه أراد مدحة ، وعندما اكتشف شخصية كافور الحقيقية هجاه بأشد الكلمات وأقذعها ، بينما لم ينقلب بنفس الشكل على سيف الدولة عندما فرق بينهما الوشاة ، إذاً فلم يكن الرجل قبيحاً أو كذّاباَ ، ولا يليق أن ننسب إلى عقله أو أخلاقه إدعاء النبوة ، لكنهُ على كل حال جرّب السجن بتهمة التنبؤ ، ألقاه فيه لؤلؤة والى حمص من قبل الإخشيد ، ثم أخرجه منه بعد أن انكسرت فى نفس الشاعر أشياء ، وتكوّنت أشياء ، خرج أقل ميلاً للخلود الوقتى وأكثر عزماً على الخلود الأبدى .

وكما أن السجن محطة جعلت الشاعر يستفيد من نفسه ، ويختلى بشخصيته القويّة ويتعلم منها ، فهناك محطة أخرى سبقتها مكّنته من تكوين هذة الشخصية وصقل فلسفتها ؛ أبوالفضل الكوفى  وهو أحد الشخصيات الفلسفية البارزة فى عصر نشأة المتنبى ، وأول من هداه إلى كتب الفلسفة اليونانية كما أشار أدونيس فى كتابه "الكتاب"  وبالطبع كان المتنبى على إلمام واسع بهذة الفلسفات ، ويظهر ذالك جليّاً فى كتاباته عن الحكمة .

وللشاعر أيدى طوال فى المديح ، ورفع القامات وخلق البطولات لممدوحيه ، حتى أنه خلق لسيف الدولة الحمدانى أسطورة متكاملة من البطولات تم نسجها من أبيات المتنبى ، ولا يسجل التاريخ لسيف الدولة إلا أنه كان أحد الأمراء الكثيرين فى تلك الفترة ، لكن ما يورده المتنبى فى أشعاره يحكى أمجاداً عريضة وصفات نبيلة ، وتُجمع القصائد التى كتبها عن سيف الدولة تحت اسم "السيفيات" ؛ ومنها :

"لكل امرئ من دهره ما تعودا .. وعادة سيف الدولة الطعن فى العدى

وإن كان الشاعر كما يرفع يضع ، فإن المتنبى امتاز بنبل الأخلاق من هذة الناحية ، فلم ينقلب على سيف الدولة إنقلاباً تاماً عندما أدار له الأمير قلبه ، فعاتبه عتاباً رقيقاً وهو يرحل عنه ، عكس ما فعله مع كافور الإخشيدى مثلاً الذى سارع المتنبى إلى هجاءه والتعريض بأصله كعبد مملوك ، مما يدل على أن علاقة سيف الدولة بشخص المتنبى كانت قائمة على الإحترام والتقدير وليست كعلاقة أى أمير بشاعر ما فى بلاطه

وفى الهجاء ، أطلق أسهماً نافذات ، خلقت له المزيد والمزيد من الأعداء ، وبشكل خاص كان يضيق ذرعاً بالشعراء المنافسين له ، ويراهم من الإنحطاط بمكان حتى أن مقارنته بهم لا تصح ، فقال مثلاً :

"أفى كل يومِ أٌبتلى بشويعرِ .. ضعيف يقاومنى قصير يطاول"

وقال فى أحد الأدعياء ، متهماً إياه بأنه استسهل الهجاء لضعف موهبته ، لكن حتى الهجاء هو صعب على من مثله

"صغرت على المديح فقلت أهجى .. كأنك ما صغرت عن الهجاء"

وعن الفكر العقائدى للشاعر ، يمكننا القول أن فلسفة المتنبى ، وحكمته ، ونشأته ، وطموحاته وأشعاره وتقلبات الزمن عليه ، كل هذا الخليط شكّل العقيدة الدينية للمتنبى ، وهذة العقيدة المشكوك فيها تتراوح فى أكثر الآراء تطرفّاً إلى الكفر الصريح وإدعاء النبوة ، وفى أكثرها تساهلاً إلى الورع والتقوى، وما بينهما يُقال عن المتنبى أنه أحد دعاة الحركة القرمطية "فرقة منشقة عن الشيعة الفاطميين" ، وهو رأى لا يمكن إغفاله لأنه ورد من ناحية الدكتور طه حسين . والثابت أنه كان شيعيّاً على الأقل ، ويُقال أيضاً أنه كان أحد دعاة المذاهب الباطنية ، وكان ذا شأن فى هذة الدعوة حتى كان يُلقّب بالإمام وله مريدين كُثُر . لكن على أى حال ؛ لم يكن المتنبى محتاجاً لمريدين يتخذون منه إماماً دينيّاً ، فقد كان إمام الشعراء ، وغاية أى بلاط ملكى أن يحظى بشاعر مثله ، وكان إمام عظماء الأدب العربى بلا شريك . هذا الرجل الذى قاتل الجميع وانتصر ، كان فى زمن سباق محموم تجاه الخلود ، سبقهم جميعاً ، فلم يُذكر سواه ، ومن ذُكروا كان لأنهم محظوظين لدرجة تلاقى نقطة من حياتهم مع حياة المتنبى ، حتى سيف الدولة الحمدانى الأمير المُنعّم لم يُذكر اسمه فى التاريخ إلا لأن المتنبى أراد لهُ ذالك .

وبكل هذا يمكن إعتبار المتنبى هو الصورة المُكبّرة والمُركّزة للإنسان العربى ، بكل ما فيه من كبرياء وشعور بالذات ، بكل ما فى جيناته من ترحال وطموح ، وما يحمله من تقلبات نفسيّة ، وربما كان هذا هو ما كفل للشاعر خلوده الذى لا يُضاهى ، فهو يستمد طاقة الإستمرار من طاقة وجود العرب أصلاً ، فهو رجلهم الذى نصّبوه شاعرهم ، ومنصب الشاعر عند العرب يعنى الكثير ، فهو مرآتهم وسفيرهم ، إحساسهم وكلمتهم .

قُتل الشاعر المُعجِز فى حادثة لا تقل غموضاً عن مكامن عظمته ، يُقال أن من قتله هو فاتك الأسدى خال ضبة الأسدى الذى كان المتنبى قد هجاه من قَبل ، وتورد فى ذالك قصة البيت الذى قتل صاحبه ، حيث يُحكى أنه أراد الهرب فقال له ابنه "ألست القائل : الخيل والليل والبيداء تعرفنى والسيف والرمح والقرطاس والقلم ؟" ، فقال له المتنبى "قتلتنى قتلك الله" وصمد حتى أطاحت به ضربة سيف . ويعتقد آخرون أن دولة بنى بويه التى سبق أن مَدَحَ حاكمها عضد الدولة البويهى ؛ قد دبرت إغتياله للتخلص من كتلة الطموح التى تمشى على قدمين هذة ، وتنتهى حياة الجسد وتبدأ رحلة الخلود ، ولا أعتقد أنها ستنتهى أبداً .