الاثنين، 17 يونيو 2013

الشيء العادي

يُقال أن الحجاج بن يوسف الثقفي رأى يوماً في بغداد جارية فائقة الجمال اسمها "نِعم"؛ فاغتصب ملكيّتها من سيّدها الذي كان يهيم بها عشقاً وأهداها إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، فحُملت إلى دمشق بعيداً عن سيدها العاشق وإلى حيث سيّدها الجديد. فما كان من العاشق المُخلص إلا أن انتقل وراءها وطرق أبواب أمير المؤمنين طالباً منه أن يسمع صوت نِعم لمرة واحدة فقط ثم لن يعود أبداً، ورغم ما اشتهر به عبد الملك بن مروان من شدة الغيرة على حريمه وجواريه إلا أنه وافق لما رأى منه الشوق يخرج قبل الكلمات، وبعد أن تحقق للعاشق ما أراد خرج من قصر الأمير وألقى نفسه من فوق جبلٍ شاهق فمات لفوره. فأمر الأمير أن تُعطى الجارية لورثته أو تُباع ويتصدقوا بثمنها على روحه، ولكن العاشقة المخلصة انتحرت بعد يومين من انتحار عاشقها، وانتهت الحكاية بموت الحبيبَين .

ماذا كان سيحدث لو لم ترُقْ الجارية لعينيّ الحجاج؟، ما كانت لتُذكر في قصص الأدب وروايات التاريخ، وما كانت لتُحكى على مر الأجيال. كم حالة عشق تستحق الخلود ألف مرة أكثر من قيس ليلى وجميل بُثينة، لكنها طويت وضاعت وربما ما اكتملت فقط لأن أصحابها لم يكونوا طليقي اللسان أو لم تساعدهم ظروف استثنائية تدفع بالقصّة دفعاً إلى سطور التاريخ. تخيّل كم عاشق طواه الليل فلا يملك أن يقول شعراً ولا يملك أن يكتب نثراً ولا يملك أن يذيب الحديد بالكلمات ولا أن يبدأ الحديث بالنظرات، قليل الحيلة مُهدر الوجود، معدوم المواهب في العشق مُضطهَد يموت فتموت حكاية عشقه، وكم كاذب مُدّعي طليق اللسان حاضر التعبيرات يكتب وينشر عن مشاعر وأحاسيس تتملكه، فيكذب حتى الامتلاء ويصدقه الجميع وتتردد كلماته وتنجح ألاعيبه وتنطلي ويذكره التاريخ شاعراً عاشقاً.

أُفكّر في العشاق العاديين، الذين لا يستطيعون أن ينظموا القصائد الطوال، الذين لا يتعاطف معهم أحد، الذين لا يملكون إلى الوصل سبيلا ولا إلى إبداء الحَزَن. أُفكّر في العاشق من قاع الهرم الطبقي لو جذبه قلبه إلى من تعلوه اجتماعيّاً أو ثقافيّاً، فيُحاول ببدائية أن يُرسل لها كلمتي حُب ما استطاع أن يكتب غيرهما، فتفضحه على الملأ الإليكتروني ناشرةً ما كتبهُ لها ضاحكة، ويضحك الجميع في هذا الأحمق المُدّعي الذي لا يستحق ما بيسار صدره أن ينبض. ولو كان كاذباً مُدعيّاً شاعراً أفّاقاً لتغيّر الوضع.

نحنُ عنصريُّون في مشاعرنا. نتحيّز ضد الأخرس الضعيف ومع المُتكلّم اللبق، اضحك وأنت تقرأني أطلب منك أن تتخيل عامل البوفيه أو سائق الأتوبيس؛ تخيّلهم عُشّاقاً، تخيلهم يذوبون عشقاً، قد يبدو الأمر مضحكاً يا صديقي العنصري، فكيف لسائق الأتوبيس أن يُحب، ويتساوى في مشاعره مع نزار قبّاني ولوركا مثلاً. واقع الأمر أنك تُقابل يومياً في طريقك الكثير من العُشّاق المُهدرين، لكنهم بسطاء، أكثر بساطةً مما يُرضيك ويُقنعك.

الجمعة، 14 يونيو 2013

أحمر شفاه

عندما أدركت أن كتاباتي مليئة بالأخطاء الإملائية؛ توقفت عن استخدام الكتابة المباشرة في المدونة، واستعضت عنها بالكتابة في برنامج Microsoft Word الذي يُصحح لي أخطائي الإملائية ويترك لي النحوية والصرفية أتكفل بهما من ذاكرتي المُتهالكة ودراستي للنحو وألفية ابن مالك والمذاهب النحوية بشكلها العقيم في كُتب الأزهر. وقبل إدراكي لواقع ضعفي الإملائي كُنت أعتقد أني طليق اليد لا أُخطئ أبداً، فأذهلتني كمية الخطوط الحمراء التي وجدتها تحت كلماتي في برنامج الـWord إشارةً على وجود خطأ إملائي، يا دين أمي !؛ من الذي علمني الإملاء؟ وكيف فعل!، كيف تخرجت أصلاً من المرحلة الثانوية بهذا الفشل الرهيب في معظم القواعد الإملائية، همزة القطع تتداخل في استخداماتها عندي مع ألف الوصل، والياءات لا تعرف طريقها من طريق الألف المقصورة.

يُقال أن أحلام مستغانمي ـ الكاذبة الجزائرية ـ لا تستطيع إلقاء خطاب قصير خالي من الأخطاء اللُغوية، ويُقال أيضاً أنها لا تكتب كل هذه الترهات التي تُباع غالياً؛ لا تكتبها، بل تعهد بالأمر إلى أحد الشعراء الذين أخطأتهم الشهرة. وبالتأكيد كل هذا الذي يُقال ليس صحيح، لكني أُرددهُ من باب تحمل مسئوليتي الوطنية في نشر الشائعات عن الأشخاص الذين لا أُحبهم، ولا أُحب مستغانمي، قرأت لها ذاكرة الجسد فأعجبتني، فحاولت أن أقرأ عابر سرير فوجدتها تجتر ذاكرة الجسد، ثم حاولت أن أقرأ نسيان دوت كوم فوجدتها تكتب من أجل اللاشيء، وتعتمد فقط على القُرَّاء المُخلصين، ثم حاولت أن أقرأ الأسود يليق بك فأدركت أن هذه المرأة العجوز مُفلسة تماماً، حتى أني كدت اُخرج من جيبي جنيهاً لأضعه على إحدى صفحات كتابها. إنها تُكرر وتُكرر كالببغاء وترقص وتخلع ملابسها على صفحات الكتاب كي تحافظ على مُراهقيها/قُرّائها، تضع القراء في المرتبة الأولى، تماماً كالكُتّاب الفاشلين. لا تُقنعني مثلاً أن نجيب محفوظ كان يُفكّر بقرائه وهو يُبدع الثلاثية، أو فيكتور هوجو كان يشغل نفسه بالقارئ الفرنسي وهو يخلق البؤساء، الفاشلون فقط يشغلهم القارئ، لأنهم ـ في اللاوعي ـ يُدركون تُجاريَّتهم وشعبويتهم الزائفة.

أنصحك بمتابعة قائمة أكثر الكُتب مبيعاً في مكتبة ألف أو الشروق، ستجد منها المقبول والضعيف، والأمر ليس نسبي، هُناك كُتب لا يمكن تقبل وصفها بالجودة أبداً ولا حتى على سبيل التجاوز، لا يمكنك مثلاً أن تصف "كيف تصطادين عريساً" بأنه كتاب جيد. عموماً تابع قائمة الأكثر مبيعاً، تابعها جيداً، ثم لا تشترْ أيّاً منها،  الكتاب الذي يُعجب الجمهور يجب أن يكون سيئاً للغاية، لأن الجمهور سيء للغاية، ولست أتحدّث هنا عن جمهور العرب فقط ولكن عن كل الجمهور في كل العالم، أي شيء يحتفل به الشعب يثبت دوماً أنهُ خطأ وربما كارثة، كُتب أحمد خالد توفيق، معسكرات هتلر، أشعار فاروق جويدة، كلها كوارث أحبها الجمهور.

تحضرني الآن فكرة شاردة عن رواية البؤساء، هل تُدرك أن ترجمة اسمها بهذا الشكل هو خطأ صَرفي شنيع توافق عليه المُترجمون!. لأن كلمة البؤساء ليست جمعاً لـ "بائس"، وإنما هي جمع تكسير لـ"بئيس" أي قوي وشديد، لكن جمع بائس هو "بائسون أو بائسين" كجمع مُذكّر سالم. إذاً فترجمة الرواية من""Les Misérables  بالفرنسية يجب أن تكون "البائسون" بالعربية ولا يصح أن تكون "البؤساء". ويأتي الرد سريعاً بأن الخطأ الشائع أفضل من الصحيح المجهول، لا أدري من هو اللغوي العبقري الذي أطلق هذه القاعدة، حيث يُفضّل المترجم استخدام لفظة شائعة لكنها خطأ لُغوياً وينأى عن استخدام أُخرى من غرائب مفردات اللغة لكنها صحيحة؛ مُستدلّاً بقاعدة عجيبة بأن الخطأ الشائع أفضل من الصحيح المجهول، وبهذا تمتلئ المترجمات بالأخطاء اللُغوية لمترجمين فاشلين. حاول فقط أن تقرأ كتاب الأمير لميكيافيليي في طبعة دار الشروق؛ ترجمة حمقاء أشبه بترجمة قناة Top movies حيثُ Fuck تعني تبّاً، تبّاً.

لماذا أكتُب هذه الأشياء؟ لماذا أُحرّك يدي على لوحة المفاتيح بدون تفكير لأُخرج ما في عقلي على الصفحات البيضاء؟ إن كنت وصلت بقراءتك إلى هذه الفقرة فأنت تستحق أن أبوح لك بسري؛ أنا مُشتت، ومشتاق، ومشتعل، ولا أدري ما أفعل، يجب أن أُحرك يديَّ حتى لا تُداعبا بعضهما وحتى أتوقف عن طقطقة أصابعي بلا هوية. تطوف بي ذكريات ليتها ما حدثت يوماً عن شعرٍ طويل وأحمر شفاه، أجمل شفاه.

في القانون المصري لا يجوز أن يدفع المُتهم بجهل القانون، لا يمكنك أن تقف أمام القاضي قائلاً أنك لم تكُن تعلم نصوص القانون فارتكبت جريمتك ببراءة، لأنه لو وافق القاضي على هذا الدفع فهو يُعطي أفضلية للجهلة بقانون الوطن ويمنح الجهل صك براءة فيتمني العالِم بالقانون لو كان جاهلاً، لذا أغلق المُشرّع هذا الباب من أبواب التلاعب، حكيمٌ هو المُشرّع المصري، ليته شرّع لي بعض القواعد أُدير بها هذا النابض العشوائي بوسط صدري يميل قليلاً إلى اليسار؛ قلبي. الذي يقول لي عندما أتهمه بالعبثية أنهُ جاهلٌ بالقواعد، يقولُ لي أنهُ يسقط بلا وعي، اُشفق عليه فأستجيب لدفاعاته الواهية وأمنحهُ أعذاراً وأُخرجه بريئاً، وإن كان مشرعنا العبقري قد ضاعف عقوبة بعض الجرائم في حال العَود؛ أي تكرار الجريمة، فإني ـ على العكس ـ أزيد من دفقة الشفقة عليه، يبدو أني أتعامل معه بالقانون الكوستاريكي أو البَنَمي.

سئمت من وضع الرسائل في مدوّنتي إلى الذين أجبُن عن مواجهتهم، أعلم أنها تصل، لكني سئمت وربّي جداً. أُريد حياة طبيعية هادئة بدون رسائل متبادلة بالشفرة، بدون خوف من المستقبل وارتياع من الماضي والتياع من الحاضر. أُريد حياة بلا تدوين ولا علاقات محكوم عليها بالفشل، أُريدُ دستةً من الأصدقاء الهلاميين البوهيميين الحشّاشين الذين لا يقرءون الشعر ولا يكتبونه. أُريد أصدقاء من نفس عُمري، أصدقاء في العشرين من عمرهم، أُريدُ أن تتحول مريم إلى فتاة في العشرين من عُمرها، لا أكثر.

من مريم هذه؟
اسم جميل استخدمته كرمز للكمال، لا أعرف في حياتي بنتاً اسمها مريم، كتبت عنها عندما كُنتُ أكتبُ شعراً لكنّي اليوم أخجل من كل قصائدي بسبب سذاجتها، لا أُطيق الاستماع لأي كلمة قُلتها وقُلتُ عنها شِعراً. مريم تتغير بتغير الفصول، تُمطرني ثلجاً أحياناً وتُحرقني أحياناً أُخرى، هي هادئة وعصبية وصادقة وكاذبة وضعيفة وقويّة، مريم إنسانة عاديّة تحمل بين أضلعها كل مقومات البشريّة، كل عُقَد البشريّة، مريم متوهّجة ومُثيرة، اطمئني يا صديقتي الجديدة لن تكوني مريَمي أبداً.

لقد سئمت حقاً من هذه الأشياء، لماذا لا يكون الحُب في بلدي طبيعياً، لماذا كل الأشياء مُعقّدة وصعبة، ربما لأني أتعلق بأشياء أكبر مني، وربما لأني أصغر من كل الأشياء. تلسعني كلمة "صغير" في دماغي فتؤلمني، أحزان كثيرة جرّبتها فقط لأني صغير، لو كُنت كبيراً، فقط عامين أو ثلاثة.

أُسائلُ دائماً نفسي : 
لماذا لا يكون الحب في الدنيا ؟
لكل الناس .. كل الناس
مثل أشعة الفجرِ
لماذا لا يكون الحب مثل الخبز والخمرِ ؟
ومثل الماء في النهرِ
ومثل الغيم والأمطار
والأعشاب والزهرِ
أليس الحب للإنسان
عمرأً داخل العمرِ ؟
لماذا لا يكون الحب في بلدي ؟
طبيعياً
كأية زهرة بيضاء
طالعة من الصخرِ
طبيعياً
كلقيا الثغر بالثغرِ
ومنساباً كما شعري على ظهري
لماذا لا يحب الناس .. في لين وفي يسرِ ؟

نزار قباني ـ اليوميّات

الاثنين، 10 يونيو 2013

夏天

أشعر* الآن بالحزن ، كما لو أني أرى أفروديتي إلهة الجمال تُباعُ كالجواري ، أو جسد ملكة فرعونية عظيمة يُعرضُ في مزادٍ علني . أشعر بالحزن ، وكل الأشياء حولي تُحرضني على الاستمرار في شعوري . هانت الدنيا فليس أسهل عليَّ الآن من الخروج على قواعد الأرض . 

الجميلات لم يُخلقن عبثاً ، ولم يحصلن على هذا الكم من الجمال بفعل عشوائية الطبيعة ، لا يجب اضطهادهن في مدينة القبح هذه ، إلى متى سيستمر الوطن في  تشويه روح كل جميلة وقتل طموحها وإجبارها على التبعية . وإلى متى تستمر الجميلة نفسها في القبول بهذا الوضع ، لا أُحرضكِ على الثورة ؛ وأعرف أني لو فعلت فإني أدفعك لقتل نفسك ، ولو كنت مكانك لما استجبت لدعوات الانقلاب على الحاكم التي تستمعين إليها ليلاً نهاراً . لا تنقلبي ولا تثوري ، احزني في رُقيّ ، ابكْ ، مزقي الوسادة ، وتعالي إليَّ بعد عامين وقد فقد وجهك نضارته وتهدّل ثديك وانطفأت عيناكِ وقولي "قتلوني" .

وما بيدي شيء ، ولا بعقلي ، ولا بقلبي شيء ، أنا مثلك يا مريم ؛ ضعيفٌ قليل الحيلة ، استلب التتر أسلحتي ووزعوها فيما بينهم ، فذاك يأكل عقلي وذاك جسدي ، وثالثٌ يركض وراء رابعٍ يُمسك بكفه أطراف روحي . الحزن يقُصّني كالأظافر الطويلة، فسامحيني .

وعدتكِ يوماً أن أبقى بجوارك مهما تقلّبَت الأيام ، وبمجرد الاهتزاز ؛ رحلت . أنا لست رجلاً يا صغيرتي ، لست رجلك ، لست فارسك ولا فارس أحد ، لن أمتطي يوماً جواداً ابيض لأُنقذ أميرة سمراء ، إني رجلٌ مُنهكٌ كاذبٌ مُدَّعي يكتفي بالبكاء الهيستيري في أحلك المواقف . لا أفكر بعقلانية ، ولا أبكي بعقلانية ، ولا أُمارس الرجولة . مُدركٌ تماماً لما وراء كلماتك عن هذا الغير مناسب الذي ارتقى القمر . مُدركٌ تماماً لوضعك يا مريم ، أعلم أنك مُضطرة ، ولم تُدركي بعد أنه لا أحد يجيب المضطر . الجميع متآمرون عليكِ ، السماء والأرض والبحار والصحاري ، الكُلُّ يتآمر على شفتيك كي تتحجرا .

لا تشعري بالذنب ولا تضعي نفسك موضعاً أقل مما جعلتك فيه . ولا تشعري أنّكِ خدعتني وزيّفت نفسكِ أمامي ، كذباتك الصغيرة أعرفها وتعرفني وبيننا صداقة ، أعرفُ كل خطاياكِ ، وأكبرها أنّكِ تصطنعين الخطايا ، تكذبين كثيراً محاولةً إبداء شفتيك كأنهما لغانية إغريقية . وهما ليستا كذالك ، أعرفُ جيداً أنهما كالألماس الخام الذي لم تلمسهُ أصابع فنان يُقدّرُ فنَّه . لا تدّعي أنكِ فعلتِ وفُعلَ بكِ ، نهداكِ ما زالا بغلافهما لم يُمسّا .

وأعرف أني لست عندك شيئاً ، ولا يعنيني هذا بشيء . لا أفكرُ في الضغط عليكِ كي أحتل جزءاً من يسار الصدر ، لن أزيد همَّكِ همَّا . ولو أملك الذي يطلقه الساحر على القلب فيتحرر لما ترددت به أن أحرر قلبك الصغير . يا مَريم التي قُتلت بها مشاعر الحب الطبيعية ، يا مَريم التي لا تُجيد الحُب أصلاً ، ولا تعرف كيف يكون ، يا بدائية التكوين ، هدّئي رَوعَ روحك .

لست أكتب عاشقاً أو مُدَّعياَ أو معاتباً ، انتهى وقت كل شيء . قولي مثلاً أنّي أكتبُ باكياً ، أكتب كالطفل الشارد لا يعي ما يقول ولا يفهمه أحد ، لا تلتفتي لي ولو قليلاً . إنّي لا أُدرك كيف يكون العالم الحقيقي ، تأتيني منهُ الصدمة تتبعها الصدمة فلا أُدرك الواقع إلا وهو يعتصرني .

يا مَريَمي ؛ يا أكمل البنات ، تذكّري جيدا أن الأشياء ليست كما تبدو عليه ، والسلام . 

*صيف

الأحد، 2 يونيو 2013

سادَ العرب

يتحدث ابن خلدون في مقدمته عن  قانون السيادة الثقافية للأُمم المنتصرة على الأُمم المغلوبة ، ويضرب لذالك أمثلةً وتثبت الأيام صحتها ، فعندما ساد العرب على أجساد الأمم المتفرقة التي أطاحوا بها ظهرت الثقافة العربية كمظهر للتمدن والحضارة في كل العالم ، وعندما انقلب الوضع انقلب الوضع . كمشروع ثقافي أُحاول مع أحد أصدقائي البدء في موقع طبّي تثقيفي يكون موجهاً للجمهور العام ، قررنا أن نبدأ العمل به كمدونة صغيرة حتى نصبح مستعدين لإطلاقه كموقع حقيقي له روافد إليكترونية ، ولم يأخذ منّا الأمر وقتاً حتى نقرر أنه سيكون باللغة الإنجليزية ثُمَّ إن أردنا إطلاق فرع عربي سنفعل ، لكن لماذا يبدأ اثنان من العرب مشروعهما باللغة الإنجليزية ، لأن العرب لا يهتمون بالقراءة أصلاً ، ولأنني وصديقي لا نهتم بالعرب .

وكنت من قبل ، ولمدة أسبوع فقط ، قررت أن أهتم بالعرب وأحاول مساعدتهم ما أمكنني على تخطي مآسيهم التي صنعوها بأنفسهم . فاتجهت لبناء مدونة إليكترونية مهتمة خصيصاً بثقافة الجسد العربي وتوعية العرب بأجسادهم التي يعاملونها بغباوة ، وكان الشريان الرئيسي للمدونة هو حساب على موقع الأسئلة والإجابات ـ Ask.Fm . لكنّي توقفت لأني أدركت أنَّ مأساة هؤلاء ليست فقط في أجسادهم بل في عقولهم ، هم لا ينظرون للمشاكل الكبيرة على أنها مشاكل حقيقية ، وربما تراهم يتعاملون مع مشاكل بسيطة على أنها نهاية العالم . وآخر ما يعنيهم هو البحث في المصادر العلمية الجيدة ، رجال الدين أفسدوا عقولهم تماماً وأخضعوهم للسلطوية المستمدة من أعالي السحاب فلا فكاك منها . وجدتهم يتعاملون مع فكرة التوعية بالجسد على أنها خروج عن النص ، النص الفَوقي الذي استعبدهم . سأخبرك فقط أنّي أجبت في حساب المدونة على 400 سؤال ، وحذفت أكثر من ألفي سؤال ما بين شتائم ومحاولات هداية وأسئلة شرعية . وحتى الأسئلة التي أجبتها كانت نسبة كبيرة منها مكررة بشكل غريب ، لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن الأسئلة المشابهة فضلاً عن البحث في المجلات الطبية والمصادر العلمية الموثوق بها ، مدونة صغيرة تتعرض لإبلاغات إليكترونية بالمئات يومياً مُعرضة للإغلاق من جوجل في أي لحظة وشتائم كثيرة تنهال عليَّ ، ما الذي يُجبرني على هذا ، فليتحمَّصوا في الجحيم بعلّاتهم الجسدية وسرعة قذفهم وجهلهم .

الغرب ليس أكثر تحضراً بشكل مطلق ونهائي ، هناك ـ أيضاً ـ تجد حمقى ومتخلفين ومنكفئين ورجعيين ، وتجد الكثير من المُحافظين والأخلاقيين ، في الغرب أيضاً هُناك رجال دين مجرمين يغتصبون الأطفال ويسرقون الكبار ويبيعون الماء على الفضائيات . لكن الفرق بيننا وبينهم يكمن في النخبة ، نُخبة العرب فاشلة وأسلوب تصعيدها أكثر فشلاً ، وسيلة ترقية المواطنين كي يصبحوا نخبة المجتمع هي إما بالتوريث في الدول الملكية أو بالتعريص في الدول الغير ملكية . لا الكفاءة تكفي ولا الإجادة تُجدي . لهذا وجد رجال الدين أنفسهم بعيداً عن وجود نُخبة مثقفة أو علماء حقيقيين لهم كلمة مسموعة ، ولك أن تتخيل مجتمع يعتبر محمد حسان وأبا إسحاق الحويني علماء حقيقيين . بينما تُثار في الغرب مناقشات حادة حول اعتبار علم الاجتماع علم حقيقي أو علم كاذب Pseudoscience ؛ يتبارى هَمَج صحاري العرب في استصدار مصطلحات جديدة يدمغون قبلها مصطلح "علم" ، لنرى علم العلاج بالرُقية وعلم الحجامة . الفرق بيننا وبين الغرب هو أن حماقتنا تتصدر الشاشة ويتم ترقيتها ، بينما حماقتهم تتم مكافحتها .

قررنا بداية مشروعنا الإليكتروني باللغة الإنجليزية ، لكن تواجهني مشكلة ضعف اللغة . درست الإنجليزية لتسعة أعوام متواصلة ولا زلت عاجزاً عن كتابة مقال طبي خالي من الأخطاء . أتمنى لكل مدرسي اللغة الإنجليزية في مصر أن يُشووا في نار جهنم خالدين فيها أبداً . لكني أكثر حظاً من الكثيرين على كل حال ؛ فلا زلت قادراً على القراءة بالإنجليزية والتعرف على الثقافة الغربية ومقارنتها . أُريدُ لنفسي في المستقبل ، خلال عامين مثلاً ، أن أصبح قادراً بشكل تام على الكتابة بالإنجليزية بطلاقة . وأُريد لوطني ، مصر ، أن يصبح أبناءها قادرين على رؤية مستنقعهم ومقارنته بالعالم الحقيقي حتى يستطيعوا الخروج منه ، اُريدُ لهم التعرف على باقي ثقافات العالم والتخلص من التكبر العربي الذي أوصلنا لما نحنُ فيه .