الجمعة، 29 مارس 2013

أوقفوا هذا الإهدار

العام الماضى كنت أتابع بشكل تلقائى عملية بناء مسجد بالجهود الذاتية فى مدينة بنى سويف الجديدة ، كان المشروع عبارة عن مستوصف خيرى ومسجد وقاعة مناسبات . وتم الحصول على الأرض بالتبرع من أحد رجال الأعمال ، كان معدل جمع التبرعات بطيئاً بالنسبة لمشروع كهذا لدرجة أنه استغرق حوالى 3 أعوام لينتهى ، تم إفتتاح المسجد للصلاة منذ شهرين تقريباً ، واليوم كانت أول مرة أصلى فيه الجمعة .

بدايةً يصدمك الترف ، ترف مبالغ فيه بشكل غريب ! ، بمجرد أن وطأت قدمى السجاد شعرت بأن هناك حالة غريبة من الإهدار ، تراكمت فى ذهنى الصور عن الرسول وهو يقف فوق جذع نخلة ليخطب ، ومسجد الصحابة الذى كانت أرضه مفروشة بالحصى ، وشيخ المسجد فى القرية الذى حذرنا من التشبه بالـ "نصارى" فى تزيين كنائسهم ، تخيلت رجلاً يخرج عشرة جنيهات ليضعها فى صندوق تبرعات بناء المسجد ، فيكون مصيرها أن تدفع إلى بائع الرخام مع غيرها لتساعد فى وضع نحت على حائط المسجد بأسماء الله الحسنى !. لوحات رخامية ضخمة هنا وهناك تغطى حوائط بأكملها ، عليها آيات قرآنية مكتوبة بخط النسخ لا تتماشى أبداً حتى مع المشهد الجمالى للمسجد ككُل . تذكرت مدرستى القديمة وكيف اضطررنا للتكدس فى مبنى واحد لأن المبنى الآخر آيل للسقوط .

ما كل هذا الإسراف ، ما كل هذا العته والجنون والتناقض والغباء وتخلف الإدارة الذى يعانى منه الوطن ، كيف نسمح بوضع مئات الآلاف من الجنيهات فى مكان من المفترض به أن يكون مثالاً للزهد فى الدنيا ، أين هؤلاء المتنطعين الجرابيع السلفيين من هذا الإسراف والخروج عن سنة الرسول ، أم أننا لن نسمع أصواتهم تلك أنكر الأصوات إلا فى الفتن الطائفية والكذب والزور ، كل جنية تم وضع فى مظاهر البذخ والجنون يجب أن يُسترجع كاملاً ويتم توجيهه بحيث يتماشى على الأقل مع إنسانيتنا .

يُقال أن العرب قديماً عندما وجدوا صنمهم الذى يعبدون "هُبَل" قد كُسرت ذراعه ، وضعوا له ذراعاً من ذهب ، حدث هذا بينما كان الفقراء يتضورون جوعاً والقبائل تأكل لحم بعضها . وما زالت فينا الجاهلية ، لم نستطع أن نُدرك الفرق بين عبادة الأصنام التى تحتاج إلى مظاهر تقديسية واضحة وعبادة الله ، لم نفهم الفرق بين العبادة التى تنحدر بنا إلى مجرد حمقى مدفوعين بغريزة التقديس إلى بشر مُحترمين لهم عقول يُدركون بها ، لم نستطع أن نتخلص من العبادة الخارجية المظهرية ونسلك طريقنا إلى تلك التى تُنقّى الروح .

متى بدأت هذة الحالة المرضية عند المسلمين ؟ .. لم تحدث فى عصر الخلفاء الراشدين ، لكن فى عصور الإضمحلال الدينى وسيطر الفقهاء والوعاظ وتراجع دور المفكرين على حساب مواكب الخلفاء ، تأثر الخلفاء بالفرس فى طقوسهم وأدخلوا منها إلى الإسلام ما استطاعوا ، وكان ممّا استطاعوا أن استنزفوا موارد الدولة ووضعوها فى تذهيب حوائط المساجد ، وكان مما استطاعوا أن جعلوا فكرة الله فى عقول العامة مقرونة بالمظاهر الفجة القبيحة من الإهدار والسلطوية حتى أصبح هناك تيار فكرى يرفض تماماً أى إعتراض حتى لو تم تفريغ كل خزينة الدولة , وتفريغ كل جيوب المواطنين الطامعين فى الجنة ، من أجل بناء مسجد .

"ما يفعل الله بعذابكم" ، "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم" ، "إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين" ؛ هذة آيات لم تكن موجودة على حوائط المسجد ، ربما لأنهم يدركون تماماً كم تتناقض مع شراهة الإسراف . تخيل كم مسجداً بسيطاً كان يمكن إنشاءه فى القرى الفقيرة لو تم توفير الأموال التى أُلقيت هباءاً فى صناعة الرخام الفاخر . تخيل كم تلميذاً فقيراً يمكن توفير تعليم محترم له , أو تخيل كم جائع / عارى يمكن مساعدته ! ، أوقفوا هذا الترف .

الملاك الجريح ـ هوجو سيمبيرج ـ 1903 ـ من مدونة لوحات عالمية

الجمعة، 22 مارس 2013

هرتلات عن القتل وأشياء أخرى


أعتقد أن كل من ولدوا فى القرن العشرين وما بعده هم الأكثر حظاً فى تاريخ البشرية ، وبنظرة أكثر دقة يمكننا القول أنهم سيعيشون أعماراً مضاعفة ، ويمكنهم أن يكتسبوا خبرات عشرة أجيال على الأقل من تلك التى سبقت هذا القرن ، ذالك لأن معدل تسابق التطور الفكرى والتقنى والأدبى للجنس البشرى قد تضاعف بهذة النسبة أو أكثر فى القرنين العشرين والواحد والعشرين ، فإذا كنت من مواليد عام 1993 مثلى فإن وصولك لعام 2013 لا يعنى فقط عشرين عاماً من البشرية ، لكن يعنى أكثر من مائة وخمسين ألف عام ، لأن هذة الأعوام العشرين قد حدثت بها من التغيرات ما يفوق كل الذى حدث على الكوكب منذ ظهور حواء الميتوكوندريا ، أو ظهور الأصل المشترك الذى انبثقت عنه كل السلالة البشرية .

وحواء الميتوكوندريا هى المرأة التى استطاعت توريث جيناتها إلى كل البشر الحاليين ، ولا يعنى هذا أنها "حواء الدين" التى رافقت آدم فى قصة الخلق الشهيرة ، فقد كان لها أقران لكنهم لم يستطيعوا توريث جيناتهم لأسباب ما ، ويقدر العلماء العصر التى عاشت فيه هذة الجدة من 150 إلى 200 ألف عام مضت ( فيديو لتوضيح فكرة حواء الميتوكوندريا اضغط هــنــا ) ، ومنذ هذة الفترة لم يحدث أن تطورت البشرية بنفس الكم والكيف الذى حدث فى العشرين عاماً الماضية فقط ، ويمكنك تخيل أجيال بأكملها مرّت على الكوكب دون أى اكتشاف جديد أو معرفة علمية مُضافة ، لكن لا يمكنك أن تتخيل فى العصر الحالى يوماً يمُر دون معرفة علمية مضافة أو إكتشاف جديد . كل هذا حدث بسبب الفلسفة .

وإن كان الكثيرون يُرجعون التطور الحادث فى القرنين العشرين والواحد والعشرين إلى كوكبة من العلماء على رأسهم أينشتين ونيوتن مثلاً ، لكن واقع الأمر أن هذة الطفرة البشرية لم تقم إلا على أكتاف بوذا وكونفوشيوس وأفلاطون وأبيقور ونيتشه والمسيح ، ذالك لأن هؤلاء الفلاسفة كانوا هم حجر الزاوية والإنطلاقة الفارقة ما بين عصرين ، عصر ما قبل الفلسفة ، وعصر ما بعدها .
ولتوضيح هذة النقطة يجب أن نتناول الزمن ؛ وعلاقته بتسارع الأحداث ، وعلاقة الأحداث بوجود الفلاسفة ، بدايةُ لا يُمكن الجزم بعدم وجود فلاسفة فى عصور ما قبل تدوين الحضارة ، وفى نفس الوقت لا يمكن إفتراض وجود حضارة بدون فكر ناضج ، هذا يضعنا أمام معضلة تستدعى وضع إفتراضات ، فإما أن العقل البشرى تطوّر بسرعة خلال بضعة آلاف من الأعوام فقط ليصبح مؤهلاً لإستيعاب الفلسفة وقبلها لم تكن موجودة ولم تكن هناك حضارة ، وإما أن الفلسفة كانت موجودة ، والحضارات كانت موجودة . لكن كارثة ما أو ضياع ما أدى إلى إندثار هذة الحضارات فلم تصل إلينا معرفة كافية بما كان ، أو ربما تصادم الفكر الفلسفى البنّاء الثائر بفكر دينى ما راكد ورجعى استطاع كبح جماحه ، ، مما أدى إلى استمرارية عصور ما قبل التاريخ لفترات طويلة جداً ، وبمجرد أن استطاع الفكر الفلسفى العبور من مأزق الرجعية ، بدأ التاريخ .

وأنا شخصيّاً أميل إلى هذا التفسير ، ذالك لأن الفلاسفة كانوا دوماً فى صدام دائم مع الدين وأتباعه . لذالك سأفترض أن عصور ما قبل التاريخ هى عصور ما قبل الفلسفة ، والعصور التاريخية هى عصور فلسفية . وإمعاناً فى الخيال ، ولأن هذة مدوّنتى أكتب فيها ما أريد متحديّاً أى منطق ، سأطرح فكرة التقويم الفلسفى كبديل للتقويمات الشمسية والقمرية فى حساب الزمن ، وفكرته بسيطة جداً ، يمكننا إعتبار الفترة الزمنية التى تستحدث فيها البشرية عشرة أفكار فلسفية هامة عاماً فلسفياً ، وهذا العام يُقسّم إلى أسماء أشخاص مؤثرينكشهور ، فنقول مثلاً أن أول عام فلسفى يبدأ بشهر إيمحوتب ، وهكذا ، وربما نلجأ إلى المؤرخين لضبط معايير هذا التقويم وترتيب أجزائه . لكن ماذا عن عصورما قبل التاريخ ؟  .. كل هذة العصور كانت خاوية من أى تقدم بشرى ، وطبقاً للتفسير الذى تميل إليه نفسى ؛ كانت السيطرة الدينية واضحة على العقل البشرى ، لذالك سنسمى هذة العصور جميعاً الشهر الأسود ، لأنها ورغم إمتدادها على حيز كبير من الأعوام الشمسية ، إلا أنها لا تتعدى فى عمرها الفلسفى شهر واحد ، ذالك أن الشهر فى التقويم الفلسفى هو مدة حدوث حدث ما ؛ هذا الحدث كان عدم وجود فلاسفة ، لذالك فقد كان شهراً أسوداً .

وهذا التقويم ليس له أى علاقة بالتقويم الشمسى ، فمثلاً قد تمر عشرة أعوام شمسية نعتبرها شهراً واحداً فلسفيّاً ، لأن هذة الأعوام لم تشهد سوى حدث واحد ، وفى العصر الحالى يمكن إعتبار كل يوم هو شهر فلسفى بل وربما عام كامل ، لذالك فإننا لسنا فقط فى عصر التسارع التقنى والأدبى ، بل إننا ـ فلسفيّاً ـ فى عصر التسارع الزمنى ، وعليه فإن حياتك لمدة عشرين عام يمكن إعتبارها مائة ألف عام ، أو مائتى ألف عام حسب إلمامك الفكرى بما يدور حولك .

لا عليك ؛ لا تستمع لهذة الهرتلات عن التسارع الزمنى وعصور الفلسفة ، يمكنك أن تنسى كل ما سبق فقد كان مقدمةٌ غير مهمة لشئ ما أود الحديث عنه ، وهو القتل . منذ قليل كنت أشاهد مسرحية "الهمجى" للفنان المصرى محمد صبحى ، واستوقفتنى أحد المشاهد واستفزت أصابعى للكتابة ، عندما قال الراوى فى المسرحية "ارتكب الإنسان أبشع جرائمه ؛ القتل" . هل يستحق القتل هذة الوصمة التى نلصقه بها دائماً ، هل هو فعلأً أبشع الجرائم البشريّة على الإطلاق ، أم أن هناك وجهة نظر أخرى يمكننا أن نتناول هذا الفعل من ناحيتها ، يبدو واضحاً لك أنى أريد مناقشة هذة الوجهة الأخرى وإلا ما كنت أرهقت نفسى بالكتابة أصلاً .

أعتقد أن التعريف الأمثل للقتل ليس هو مجرد إزهاق حياة كائن آخر ، ربما هو "إستدعاء الموت" ؛ أو تحقيق النهاية الطبيعية للإنسان ، وهو يختلف عن الموت الطبيعى فى أنه يكون متوقعا ومعدا له من قبل إنسان آخر ، إذا فهذة الحالة فضلاً عن أنها إرضاء لنداء الطبيعة بإعادة جسد الإنسان إلى الأرض ، فإنها أيضاً إرضاء لنداء الشهوة البشرية ، فضلاَ عن المكاسب التى قد تكون كثيرة وتعود على القاتل من جراء هذا الفعل ، ولا أدرى لماذا أعتبر رفض المقتول الإستسلام للقاتل هو نوع من الأنانية المفرطة ، أشعر بنفس إحساسى حيال الشخص الذى يرفض التبرع بأجزاء من جسده بعد موته ، حسناً إذا كانت حياتك ستنتهى بشكل أو بآخر ، اليوم أو غداً أو بعد ألفى عام ، لماذا لا تسمح لشخص ما ـ يريد قتلك بشدة ـ أن يُحقق ما يريده فتكون بذالك أرضيت بداخله الشهوة البشرية ، وتتقبل نهايتك بكل سلام وسلاسة وأريحيه ، فقط تريح جسدك وربما تهمس فى أذن قاتلك بهدوء قائلاً "استمتع" .

الأمر ليس كما يبدو عليه ، حتى كاتب هذة الكلمات لا يمكنه تنفيذ هذة الهرتلة ، وإن كنت قد عصرت على نفسك برتقالتين وتحمّلت منى الحديث عن التقويم الفلسفى والإستغناء عن التقويم الشمسى ، فلا أعتقد أن كل موالح الكوكب قد تكفى لجعل أى إنسان يتحمل أن يُقتل متمثلأً نصيحة كاتب أحمق . ولا حتى هذا الكاتب الأحمق قد يفعل ذالك ، لكن دعنا نتناقش ، على كل حال فأنت تقرأ لى الآن وهذا يعنى أن لديك الوقت الكافى الذى تريد إضاعته . إذاَ قُل لى ، ماذا لو كُنت قُتلت الشهر الماضى ، ألم يكن هذا ليثلج قلبك الآن ، ما يخيفنا فى الموت ليس ما بعده ، جميعنا مدركون فى لاوعينا الكامن حقيقة ما بعد الموت وفراغيته مهما حاولنا تغطية هذا الإدراك بالثوابت الدينية ، لكن المخيف فى الموت حقاً هو أنه مجهول ، ارجع إلى طفولتك وحاول إحصاء المرات التى رفعت فيها كفك للسماء متضرعاً أن يمنحك الله حياتين ، لتقتل نفسك فى أحدهما فتذهب إلى هذا المجهول وتستكشفه ثم تعود لتعيش حياتك الأخرى ، ثم استبد بك الطمع والخيال ، فقلت " لو كانت لى حياتين لما قتلت نفسى فى أحدهما ، لكن سأعيشهما بشكل كامل" ، لقد كنّا أطفالاً يا صديقى ، الآن أنت فيلسوف كبير ما شاء الله عليك ، ويمكنك أن تعى الأمور وتدركها بعمق ، ولا يخفى على حصافتك أن تستشف من أفكارك الطفولية أن ما بعد الموت كان مجهولاً بالنسبة لك ، وما تم تلقينه من دين وأفكار دينية لم يستطيعا تغطية هذا المجهول أو سد ثغراته ، ذالك لأنه منذ بداية التقويم الفلسفى بدأ العقل البشرى يتطور بإنتظام فى إتجاه مضاد للفكر الدينى ، حتى وصل لهذة القفزات الفلسفية التى نعيشها ، والتى أصبح فيها الفكر الدينى غير كافياً لإقناع الأطفال وسد فضولهم تجاه الرغبة فى إستكشاف العالم الآخر .

نعود إلى ما كنا عليه ، عن القتل ؛ قليلون هم الذين يمكنهم التسامح مع من قتلوا أقارب لهم ، وفى قريتى بأسيوط لا يوجد من يتسامح أصلاً ، لكن هل لو عاد المقتول نفسه ، هل كان سينادى بالثأر ؟ .. ربما لا ، لا يعنى المقتول بالقاتل ولا يكرهه ، الثأر مسألة شخصية بحتة بين القاتل وصاحب الثأر ليس لها علاقة بشخص المقتول أو مشاعره أو رأيه . وهى مسألة مغرقة فى أنانيتها أيضاً ، مغرقة فى إنسانيتها ، وهذا يجرنا إلى نقطة فرعية وهى علاقة الإنسانية بالمشاعر السلبية مثل الأنانية والحقد ، لقدتم حصر مصطلح "الإنسانية" فى بعض الجيتوهات المثالية التى تختزل البحر فى زجاجة ويسكى ، الإنسانية يا صديقى هى كل المشاعر التى يختص بها الإنسان ويستطيع التعبير عنها وتقمصها وحملها بكل مثالية ووضوح ، ولا يمكن إضفاء صفات الخير أو الشر المُطلقَين على هذة المشاعر ، ومنها "الحقد ـ الأنانية ـ الحب ـ الكراهية ـ الصداقة كأحد أشكال الحب ـ التواضع ـ الغرور" ، لكن يمكن بشكل شخصى ونسبى جداً وضع عباءة الخير أو الشر على هذة المسميات . نعود إلى الثأر من القتل فنقول أنه مسألة مغرقة فى أنانيتها وبالتالى فى إنسانيتها ، لأن الذى يفعلها يهدف إلى إرضاء دوافع شخصية بحتة لها أسسها السيكولوجية ودوافعها من الضغوط الإجتماعية المتمثلة فى الصعيد بالضغوط القبلية ، لكنها ليست أبداً مسألة متعلقة بدم المقتول أو راحته فى قبره أو غير ذالك من التعبيرات الكلاسيكية المجوفة . لذالك فإن ممارسة القتل لو تم إخراج كل الأطراف منها وتمثيلها فى قاتل ومقتول فقط ، وإستبعاد جانب الثأر المجتمعى وجانب ما يسمى عدالة القانون ، سنجد أنه شئ لذيذ جداً ، تقتلنى  فأرتاح ، وترضى أنت شهوتك الإنتقامية .

وفى الغالب تصاحب حالات إرضاء الشهوات عند الأشخاص الغير مكتملى النضج أعراض سلبية من الشعور بالذنب ، وليس من السهل أن نجد الشخص الناضج بما فيه الكفاية بحيث يقتلك ثم يجلس بجوار جثتك ليشرب كوباً من الشاى المركّز ، أو يقف تحت الدش مُكرراً أحد مقاطع أغنية "سلملى عليه" لفيروز ، ويستطيع أن يخمد فى نفسه الشعور البدائى بالذنب مقتنعاً تماماً أنه لم يوقف البشرية عن التقدم وإنما أراح أحد أفرادها وأرضى فى نفس الوقت شهوته الإنتقامية ، القتل كالجنس والماء والهواء . وأيضاً لن نجد الشخص الذى يستقبل قاتله بمصافحة متحضرة ويدعوه للإنتظار قليلاً حتى يُنهى مطالعة جرائد الصباح ويستعد لأن يصبح مقتولاً .

سوف  أناقض نفسى قليلاً ـ أعتبرنى محمد مرسى يا أخى ـ وأحاول تقديم نقد منطقى لهذا التصوّر اللامنطقى الذى عرضته فى مسألة القتل ، لو وصلنا لهذا العالم اليوتوبى من القتلى والقاتلين ، فإننا ربما نكون بذالك نوقف فعلاً مسيرة البشرية عن التقدم ، ونوافق على إرضاء شهوة القتل فى مقابل إثارة مشاعر أخرى قد تكون آثارها مدمرة للحالة النفسية لأى إنسان ، ولو انتشرت فسوف تنشر معها هذة المشاعر السلبية بشكل عام ، مثلاً سيؤدى إنتشار القتل إلى عدم الشعور بالأمان ، وهذا ما قد يؤدى إلى مرحلة لا تُطاق من العبثية ، وربما سأخسر نصف قرّائى أو أكثر لأنهم إما تعرضوا للقتل أو مشغولين عن القراءة بالتحضير لجنازات أقاربهم ، أو ربما يفكّرون فى شخص ما ليقتلوه .

عزيزى القارئ ، أنا أهرتل لا أكثر ، وهذة الهرتلات يمكنك أن تقرأها من أى جانب ؛ اعتبرها فن تجريدى يا أخى . لكن ربما نحن فى عصر الهرتلة بالفعل ، عصر القتل متعدد الأشكال ، عصر الإقصائية والتشكيك والقلق ، دعنا نحاول أن نستكشف عقولنا فربما هى الحل . الكتابة أصلاً هى محاولة لإستكشاف الذات ، ومنح فرصة للآخرين كى يطّلعوا على هذة الذات .



الاثنين، 11 مارس 2013

مائتى ألف عام من العزلة

مُقدّمة : قال أرسطو ؛ أن الأجسام المادية عندما تسقط من أعلى إلى أسفل ، فإن سرعتها تتوقف على كتلة الجسم ، أى أن طناً من الحديد سيصل إلى الأرض أسرع من كيلو واحد من نفس المادة ، ووافقه على ذالك كثير من الفلاسفة والعلماء . لكن العلم الحديث أثبت خطأ هذة النظرية تماماً ، وفى الواقع ؛ كثير من آراء الفلاسفة كانت مجرد تجاوزات علمية ، لكن هذا لا يعنى بأى حال أن نُلقى باللوم عليهم ونتهمهم بالخطأ ، لأن الفلسفة أصلاً ليس فيها ما يُسمى خطأ فى الرأى ، رأيك هو رأيك وسيظل كذالك ولا يمكن أبداً وصفه بالخطأ المطلق ، لأن الحياة عبارة عن حالة كبيرة من حالات تطبيق مبدأ عدم التأكد ، لا يمكن الوصول ليقين ما فى أى مسألة خاضعة للبحث العلمى ، وكل الأشياء يمكن إخضاعها للبحث العلمى ومنهجيته . وبناءاً عليه فإن ما يلى من سطور لا يمكن وصفه بالخطأ المطلق ولا بالصواب ، لا أريدك أن تشعر باليقين وأنت تقرأ ، ولا تشعر بالشك ، لا تشعر أصلاً ، فقط فكّر وحاول أن تستمتع ما استطعت ، لا أنصحك بالتطبيق العملى لما ستقرأه .
__

لماذا نحن ضعفاء إلى هذة الدرجة ، غير متماسكين ونحتاج دوماً إلى أطراف أخرى ، مقتنعين تماماً أننا كائنات إجتماعية ، الإنسان .. كائن إجتماعى ؛ الإنسان .. كائن إجتماعى . أصلاً ، الإنسان ليس كائن إجتماعى ، بل هو كائن منعزل لأقصى درجة ، لديه القدرة على منح روحه كل المشاعر التى يحتاجها ، ومنح جسده الطاقة الكافية للحياة لفترة طويلة  بدون الإصابة بأى مرض ، لكن الوجود فى جماعات يقتله ، يثير فى جسده الملوثات فيموت بالتسمم البطئ قبل عمره الإفتراضى ، ويخلق فى روحه المشاعر المستثارة ، الحزن القاتل والسعادة القاتلة ، فتبدأ مشاعره فى التكون ، مغموم / سعيد / حزين / مضطرب ، كل هذا بسبب الجماعة الإجتماعية ، لكن التواجد منعزلاً يلائم طبيعة الروح ، فيستطيع عندها الفرد أن يمنح نفسه الشعور الذى يريده ، الشعور الوحيد الذى يريح الإنسان ولا يقتله أبداً ، الشعور الذى لا يمكن أن يكون متطرفاً أو مثيراً أو قاتلاً ، شعور الإطمئنان . لن نطمئن أبداً وسط الآخرين ، ما دمنا نحتاج لَهُم ونرافقهم ؛ لن نصل للإطمئنان الكامل ، ولن تتمكن أرواحنا من صب هذا السائل المنعش من الهدوء على  الجسد ، ما دام هناك شخصٌ ما يسمع ويرى ما تفعله روحك ، لا يوجد إنسان طبيعى يتصرف بتلقائية متناهية فى وجود الآخرين ، بينما فى العزلة التامة ، يطمئن الجسد ويطمئن العقل وتهدأ الروح ، فنبدأ فى ممارسة شعائر إنسانيتنا ، ربما نتصرف بمعزل عن كل حضارة ، ربما بهمجية أو بدون ذوق ، الذوق أصلاً هو أحد الإختراعات الفاشلة للجماعات الإجتماعية تماماً مثل علامات الترقيم وإشارات المرور ، كلها إختراعات فاشلة . راقب نفسك بمفردك فى مكان خالى تماماً من أى إنسان آخر ، ستجدك الحقيقى ، الإنسان الصحيح الذى لا يحتاج إلى أى شئ ، تستطيع أن تمنح نفسك السعادة إن أردتها ، وتستطيع بمزيد من الحكمة أن تمنح نفسك الطمأنينة وأنت تسترد إنسانيتك شيئاً فشيئاً .

أما الذين يبحثون عن الآخر ويفتقدونه ، الباحثين عن الحب / الصداقة / الأمومة وغيرها ، هم أشخاص لم يدركوا بعد إنسانيتهم بشكل كامل ، فرضت عليهم إجتماعية البشر الحاليين أن يصبحوا هم أيضاً كذالك ، لكن التواجد فى جماعات تحتاج بعضها بعضاً ليس هو الأصل ، بل هى صفة تطوريّة ، اكتسبها الإنسان على مر مئات الآلاف من السنين ، يحتاجون فقط إلى بعض التوعية وستظهر إنسانيتهم المنعزلة على الفور . أنت لا تحتاج للآخر حتى تشعر بالدعم والمسانده ، لأن الآخر هو الذى جعلك تشعر بالضعف من البداية ، لو لم تكن وسط هذا الكم من البشر لما شعرت بالضعف فى بعض الأوقات ، ثم تشعر بأنك تحتاج إلى من يساند ضعفك فتلجأ إلى صديق ، تهرب من المجتمع إلى أحد أفراده ، لقد استعبدتك الجماعة الإجتماعية وأقنعتك بهذة العبودية . أنت ـ فى عزلتك ـ لست بحاجة إلى طرف الآخر كى تشعر حتى بالإشباع الجنسى ، وفى داخلك جزء ما مُدرك تماماً لهذة الحقيقة ، لهذا تمارس العادة السريّة ، لكن المكوّن الإجتماعى حولك يضغط مرة أخرى ويحاول إقناعك أنها حالة شاذة ، لكن الحقيقة أن جسدك مؤهل بالفعل لإشباع نفسه جنسيّاً بدون وجود شريك آخر ، بدون وجود الآخر .

عندما خلق الله آدم ، تذكّروا القصة جيداً ؛ خَلَقَ معهُ حواء كى تؤنس وحدته ! .. هذا ليس صحيح إطلاقاً ، لا يمكن أن يخلق الله نصف المجتمع كى يملأ وقت الفراغ للنصف الآخر ، ما هذا العبث ، كما أنى لم أجد أى مصدر مؤكّد لهذا التفسير الغريب "كى تؤنس وحدته" ، هل أدرك الله بعد أن خلق آدم أنه قد خلق كائناً إجتماعيّاً ، فأراد أن يعوّض هذا الإدراك المتأخر بخلق كائن آخر ، الرواية ليست منطقية إطلاقاً وإنما خلق حواء له أسباب أخرى لا أدّعى العلم بها ، لكن التاريخ يكره الثغرات ، والبشر يريدون أى تفسير يرضى نظريتهم العجيبة "الإنسان كائن إجتماعى" ، وفى الحقيقة خُلق آدم وحيداً ، وخُلقت حواء وحيدة ، حتى مع تواجدهما سويّا كانا يعيشان الوحدة ، على أرض مساحتها ملايين الكيلومترات ، رجل وزوجته ، إن لم تكن هذة هى العزلة المطلقة فماذا تكون إذاً ؟ ـ ثم بدأت التكتلات ، بدأ الإجتماع على مر العصور ، تكونت القرى والمدن ، أهمل الإنسان سلبيات الإجتماع فأصبح معتاداً عليه ، تماماً كما اعتاد على السير منتصباً .. انتشرت السرقة والقتل ، والغش والخداع ، ظهر أسوأ ما فى البشر ، الحقارة والنذالة ، الصفات المتنحية التى تحتاج فقط لعوامل الإجتماع حتى تظهر ، ثم خرج بعض الحكماء الذين أدركوا إنسانيتهم فانعزلوا عن الآخرين ، لاحظ أن كل الذين غيروا مجرى التاريخ فعلوا ذالك عن طريق الإرتداد للإنسانية ، الإرتداد للعزلة ، هكذا فعل بوذا كى يجعل التاريخ ينحنى له ، وفى الرواية الإسلامية عندما أراد الله أن يبعث محمداً ، جعله يعتكف فى الصحراء منفرداً وأكّد عليه أنّهُ بشر ، إنسان فائق الإنسانية ، والعزلة هى الطريق إلى الإنسانية .

أنت لا تحتاج لهم بكل بساطة ، لا تحتاج لصديق ولا حبيب ولا زوجة ولا أى إنسان ، لا تحتاج للحب الرومانسى ولا الجنسى ، ولا للصداقة ولا أى علاقة إنسانية .. تستطيع التكيّف بمفردك ومنح نفسك شعور الإطمئنان ، ما يجذبنا فى العلاقات الإجتماعية هو الطَمَع ، نطمع فى المزيد من السعادة ، المزيد من الإثارة ، المزيد من المتعة الجنسيّة أحياناً ، لكن هذا المزيد يأتى بنتيجة عكسية ، المزيد من السعادة سيجعلك تفقد الإطمئنان ، الإثارة تخرجك من الملل لكنها قد تقذف بك إلى الحزن والإكتئاب ، الندم ، الشعور بالضعف . ليس هناك صديق متوازن سوى الطبيعة نفسها ، التموّجات الصخرية فى الصحراء ، تدفق المياه فى الشلالات ، إنسياب العطر الطبيعى فى الغابات بعيداً عن العطور المُصنّعة بيد الإنسان ذات الرائحة المقززة المبتذلة . أغلى عطور العالم تبدو مبتذلة أمام رائحة الليل منفرداً فى صحراء قاتلة ، لأنك إنسان ، عندما وُلدت كان جهازك العصبى مهيئاً لإستقبال عطر الغابات والصحارى لا رائحة بلاك ستار ودولتشى . لكن المجتمع يجب أن تكون لهُ مخلفات ، ويجب أن يستهلك الفرد ـ الذى هو أنت ـ هذة المخلفات حتى يضمن الإستمرارية ، تروس تروس ، لقد تحولنا من بشر إلى تروس فى آلة كبيرة تُدعى المجتمع ، نُصلّى للمجتمع ، ندعو الله أن يمنحنا قبول المجتمع ، نُحاول جاهدين أن نندمج فى المجتمع ، , وكأننا بحاجة إلى هذا التنظيم أصلاً ، وكأنه ليس تنظيم سرطانى يهدف لإستنزاف الإنسانية ، يجب أن نوقف هذا العبث .

كل ما هو غير طبيعى ينتهى بشكل مأساوى ، وهكذا هو المجتمع البشرى ، غير طبيعى وغير مقبول من ذاته ولا من الطبيعة ، خروج عن الإنسانية ، سينتهى هذا الوضع الشاذ الذى استمر آلاف السنين نهاية مروّعة ، بكارثة لا يمكن إصلاحها أبداً ، ستنتهى الأرض وتتوقف عن العطاء إحتجاجاً على هذة التجمعات الغير منطقية ، عاش البشر على هذا الكوكب مائتى ألف عام ، وبدأوا فى التجمّع المُريع هذا منذ بضعة آلاف من الأعوام فقط ، ومن هذا الوقت وحتى الآن بدأ الدمار بعجلة تصاعدية ، يُقال أنه فى العقد الأخير وصل الإنتاج الإنسانى من الكتب إلى أكثر من مجموع ما تم إنتاجه خلال خمسة آلاف عام مضت ، أى أن معدل قطع الأشجار تضاعف مئات المرآت ، معدل إستهلاك البترول ، إستهلاك الفحم والهواء الجوى ، معدل إستهلاك التربة والمياه ، لقد تضاعفنا وتطوّرنا فى عكس الإتجاه الطبيعى لإنسانيتنا ، تحوّلنا لآلات تفتقد الشعور البشرى ، بدأ الضعف يغزو الروح مع كل حركة تدفع الإنسان إلى الإلتحام بأقرانه ، ضعف .. يدفعنا إلى الإحتماء سويّاً . عندما كان كل إنسان بمفرده ، لم يتعرض لأى حادث يسبب له الشعور الروحى بالضعف والإحتياج النفسى ، حتى الحيوانات المتوحشة كانت تثير فيه مَلَكة التفكير وتُشعل فيه الشجاعة للقتال البدائى ، لكن تواجده مع البشر جعله ينسى بدائيته ، ولا يستطيع أن يتعامل مع الخطر الذى من نوع آخر ، خطر الإنسان على الإنسان ، فبدأ يضعف ويُفرغ طاقته فى التقدّم المادى ، وماتت الروح تماماً حتى أنكر كثير من العلماء المعاصرين وجودها أصلاً ، وربما هم محقون فى ذالك ؛ لا توجد روح فى إنسان يعيش داخل ناطحة سحاب وسط ملايين من البشر ، الروح يجب أن تشغل حيزها المناسب من الفراغ . لكن التواجد مع الآخرين يضغط على الروح ويحددها ، يكبح طاقاتها ويصيبها بالأزمات ، مهما كانت درجة الثقة فى هؤلاء الآخرين ، حتى لو كان محيطك الإجتماعى صغير جداً فإنه غير موثوق ، لم يكن فى ولاية أوهايو الأمريكية عام 1895 سوى سيارتين فقط ومع ذالك وقعت حادثة اصطدام بينهما ، الإنعزال يعنى الإنعزال التام لا تقليل حجم المحيط الإجتماعى .

لست فقط أَدعوك إلى الخروج من المجتمع ؛ بل أدعو نفسى وأدعو المجتمع إلى الخروج من ذاته ، إلى التفكك ، أن نُصبح أفراداً متفرقين يعيش كل منا بإنسانية مفرطة ، هذا مستحيل ـ ربما ـ لكنه ليس خطئاً ، وإن لم تكن اقتنعت بشكل كامل ، فلابد أن شيئاً ما بداخلك يشعر بالراحة تجاه الفكرة ، هذا الجزء هو فطرتك البشرية الطبيعية ، سيأتى يوم ما فى المستقبل ونضطر جميعاً للإنصياع لهذة الطبيعة حتى نستطيع المواصلة على الكوكب ، أو نقف أمامها معاندين ونرحل عنه .

                                       العزف المنفرد

الخميس، 7 مارس 2013

مرجعيّة مصريّة




أسلوب ربط الإتجاه بالعقيدة بسيط جداً وقوى جداً ، الإتجاه الفكرى هو رأيك فى موضوع ما ، أو ميولك الفكرية تجاه هذا الموضوع ، مثلاً تشجيعك لفريق رياضى هو إتجاه فكرى ، ميولك الأيدلوجية سواءاً أكُنت ليبرالي أو إشتراكي أو غير ذالك ، هى إتجاهات فكرية ، وهذة الإتجاهات قابلة للتغيير بضخ معطيات عقلية جديدة فى الدماغ ، لكن العقيدة هى موقف فكرى لا يتعرض للتغيير على المدى القريب ، مثل العقيدة الدينية أو العقيدة الوطنية ، فأيّاً كان لا يمكن لأى شخص أن يتحول من دين لآخر بسهولة ، أو يتحول من الإنتماء لوطن ما إلى آخر بسهولة ، ذالك أن العقيدة غالباً صلبة وقوية ، وتتلخص فكرة تيار الإسلام السياسى فى ربط الإتجاه الفكرى الذى تُفترض به المرونة ، ربطه بالإتجاه العقائدى الذى هو صلب ، وبالتالى يترسخ فى وجدان الشخص أن إنتمائه السياسى ما هو إلا إنتماء دينى أيضاً ، وأنه يخرج فى المظاهرات فى سبيل الله ، ويضع صوته الإنتخابى فى سبيل الله ، لقد تكونت الفكرة وتداخل الإتجاه مع العقيدة وانتهى الأمر ، ولا بديل عن التوعية حتى يتم فك هذا الإزدواج والتخلص من حالة تشويه الوعى التى سقط فيها الفرد .

هذة مقدمة رأيت أن لابد منها حتى يعى القارئ تفسير الحماس الجارف من أعضاء الجماعات الإسلامية لفكرتهم ـ عقيدتهم . وأُريد أن أنتقل منها إلى شكل آخر أكثر تخصيصاً ؛ الأحزاب السياسية ذات الإتجاه النصف سياسى ـ نصف مدنى ، مثل حزب مصر القوية وحزب الوسط ، هذة الأحزاب التى لعبت على الوترين كليهما ، فحاول مؤسسوها أن يجعلوها مُقنعة وهى تظهر بالشكل المدنى ، لكنهم لم يستطيعوا إخفاء الهوية الإسلامـ ـ سياسية كثيراً ، عن حزب الوسط بشكل أكثر تحديداً أتحدّث . الأسبوع الماضى ، وبدافع من الفضول أردت أن أحضر إجتماع للتعريف بحزب الوسط فى جامعة النهضة NUB ، وقررت أن أستمع ولا أتحدث أبداً لأنى ربما أجد نفسى مندفعاً للحديث عن المغالطات التى تحدث عادةً فى تقديم مثل هذة الأحزاب ، وبالفعل نجحت فى ضبط النفس حتى لحظة معيّنة سمعت فيها المُتحدّث ـ وهو أخ مُثقّف من قيادات شباب الوَسَط ـ يتحدث عن المرجعية الإسلامية للحزب ، وكيف أنها مرجعية من "الحضارة" الإسلامية . ولا أدرى لماذا فى وطن كـ مصر التى يُقال أن لها حضارة تمتد لآلاف السنين ، لماذا نبحث عن "حضارة" أُخرى ؟ ، وليتها كانت حضارة متماسكة لها قواعد واضحة ، لكنها حضارة بدوية لا تتجاوز بضع مئات من السنين .

وهنا يَجب أن نُفرّق بين شيئين فى غاية الأهمية ، الحضارة الإسلامية والدين الإسلامى ، "الدين" الإسلامى عند مُعتنقيه نَزَل من السماء ، أى أنه بالكامل صناعة إلاهية مُقدّسة ، لكن "الحضارة" الإسلامية ـ وأى حضارة ـ هى صناعة بشرية ، لذالك فإن إسباغ القدسية على الحضارة الإسلامية هو أيضاً أحد أشكال ربط الإتجاه الفكرى بالعقيدة ، إتجاهك الفكرى نحو إحترام الحضارة لا يجب أن يختلط بإتجاهك العقائدى . هذة واحدة ؛ الثانية هى الفرق بين دخول الإسلام مصر ودخول جيش المسلمين مصر ، عندما قرر عمرو بن العاص أن يدخُل بجيش المسلمين أرض مصر ، كانت الفكرة ـ المُعلَنَة ـ هى نشر الإسلام ، لكن الإسلام كان سينتشر بالفعل حتى بدون حركة أى جيش تجاه أى دولة ، ودليل ذالك بلاد كـ إندونيسيا وماليزيا التى لم يطأ أرضها جندى مُقاتل واحد يدعوها إلى الإسلام لكنها تحولت إلى دول إسلامية ، هذا رغم البعد الجغرافى الواضح بين هذة البلدان وبين مركز الإسلام فى شبه الجزيرة العربية ، وبالقياس على مصر نرى أن مصر بموقعها الملاصق لمهد الدين كانت ستتحول إلى الإسلام بشكل أو بآخر .

ولذالك فإن دخول جيش عمرو بن العاص إلى مصر وضمّها إلى منظومة ما يُسمّى "الحضارة" الإسلامية ، ليس له علاقة بدخول الإسلام إلى قلوب المصريين وإنضمامهم إلى "الدين" الإسلامى ، لكن الشعرة الفاصلة بين الحضارة كإتجاه فكرى وجهد بشرى والدين كعقيدة وفكرة إلاهية قد قطعها تيار الإسلام السياسى وأحزابه عن طريق عملية منظمة لتشويه الوعى العام لدى الشباب المتحمّس . 

والغريب أن دخول جيش ابن العاص لمصر تصحبه دوماً هالة غريبة من التقديس ، حتى يُخيّل للمرء أنها إحدى الخطوات التى أمر بها الله من فوق سبع سماوات ، ويصحب هذا التقديس النفسى تقديس لفظى ، فيسميها المصريون "الفتح الإسلامى" ، وهذة التسمية بقدر ما هى ليست صحيحة بقدر ما هى مُهينة للمصريين وللإسلام على حد سواء ، إن كانت جيوش بن العاص هى التى أدخلت الإسلام إلى مصر فهذا يعنى أن الشعب المصرى أقل وعياً من الشعب الماليزى أو الإندونيسى أو من ملايين الهنود الذين دخلوا فى دين الله بدون جيش فاتح ، وأنهم يحتاجون من يقودهم إلى الإسلام ، وهى كذالك إهانة للإسلام أن نقول أن إسلام المصريين جاء بالجيوش والحروب ، وكأن الإسلام لم يكن ليدخل مصر بدون هذا الغزو العسكرى ، أعتقد أن لا ، مصر كانت ستتحول للإسلام عاجلاً أو آجلاً ، والغزو العربى لها كان مجرد توسيع للإمبراطورية العسكرية التى بدأها القادة العسكريون الذين أسلموا لاحقاً مثل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص ، حيث ساهموا فى تحويل وجهة الجيوش الإسلامية من تأمين حدود الدولة الناشئة إلى التوسع وغزو الأراضى ، ومصطلح الغزو هنا ليس من عندى ، وإنما هو مصطلح قديم ودارج واستخدمه الرسول فى الإشارة إلى حروبه .

نعود إلى ما كُنّا عليه ، الحديث عن "الحضارة" الإسلامية كمرجعية سياسية ، أو خط فكرى نعمل عليه من أجل النهضة ، وفى حديثى هذا لا أُكن أى قدسية لهذة الحضارة المُدّعاة ، لأنه ـ كما أشرت من قبل ـ هذة حضارة من صنع البشر وقابلة للنقد بل والنقض إن لزم الأمر ، فيجب عليك ـ كقارئ ـ أن لا تُصاب بالفزع من حقيقة تاريخ الدول الإسلامية ، لأن الإسلام ليس هو الدولة العباسية ، ولا الدولة الأموية ولا الطولونية ولا البويهية ولا الفاطمية ، كلها إمبراطوريات متعاقبة شكّلت فى مجملها المختلط ما يُسمى الحضارة الإسلامية ، وهذة الدوَل ليست مقدسة ، وبالتالى تفنيد عيوبها ليس له أى صلة بالإسلام من قريب أو بعيد ، والإبتعاد عنها كمرجع فكرى ليس له علاقة بالإبتعاد عن الإسلام كمرجع عقائدى "راجع الفقرة الأولى" .

وعندما نقول أن الدولة الإسلامية مرجع حضارى ، فإن نسبة خطأ الجملة تكون ثابتة فى العالم بأجمعه ، وتزيد فى مصر ، لأن مصر بالذات لا تجوز فيها مثل هذة الجملة ، حتى لو افترضنا ـ جدلاً ـ أنها صحيحة ـ جدلاً ـ . فإن الدولة المصرية لديها مرجع حضارى متكامل يجعل الإستعانة بأى وافد خارجى هو نوع من العبث ، عن مرجعية الحضارة الفرعونية أتحدث .

أخرج عن إطار الصورة قليلاً وانظر للأمر من الخارج ، ستجد أن وجودنا فى قلب الحركة الفكرية تشوش رؤيتنا للأمر ، لكنه واضح جداً ، نحن شعب له حضارة ضاربة فى عمق التاريخ بـآلاف السنين ، شعب ليس توسعى ولا استعمارى ، اهتم ملوك الفراعنه على مر العصور برخاء الشعب وتقدمه ، ورعاية العلوم والفنون والحكمة ، حاولوا صنع علاقات طيبة مع الشعوب العدائية المجاورة لهم ، انشغلوا بصد هجمات الهمج والرعاع والتوسعيين ، أغارت علينا الجيوش الإستعمارية وتعاقبت الدول . حتى وصلنا إلى ما نحن عليه من إنحطاط الدولة ، تراءت أمام أعيننا فكرة إعادة بناء الوطن ، فخرج بعض المتنطعين ليقولوا لنا "عليكم بمرجعية الحضارة الإسلامية" ، وكأننا شعبٌ بلا حضارة حتى نستقى حضارتنا من أبوالعباس السفاح أو عبدالملك بن مروان .

وأكثر هذة الإختلافات جوهريةً هو فكرة التوسع ، أساس فكرة الحضارة الإسلامية هو التوسع ، وأساس فكرة الحضارة المصرية هو الإستقرار وبناء الدولة ، ربما تتوارد إلى ذهن القارئ عبارة "هذا الكاتب لا يريد الحضارة الإسلامية التى حكمت الأرض شرقاً وغرباً " ، أنا مُدرك تماماً أنها حكمت الأرض شرقاً وغرباً ، ولهذا بالتحديد لا يجب أن نجعلها قدوتنا ، لأنها حضارة تبنى إزدهارها على التوسع فى الأراضى المجاورة ، وأعيد كلامى بأنه لو قلنا أن هذا التوسع هو سبب إنتشار الإسلام فإننا نُهين الإسلام ، وإنما هذة التوسعات كانت لتحقيق المجد لدولة معينة عباسية كانت أو أموية ، وهى توسعات قام بها جنود فى جيوش السلطان ولم يقم بها ملائكة منزلون ، هى توسعات بشرية .

راقب مثلاً القصة الشهيرة فى الأثر ، التى تُروى عن هارون الرشيد رمز الدولة العباسية الأولى ، ودرة الحضارة الإسلامية وهو يقول مُخاطباً السحابة "أمطرى مائك أين شئتِ فسيأتينى خراجك" ، هو يتباهى بأن أرض دولته كبيرة ومتسعة وأنه يستطيع جباية الخراج عن ماء السحاب فى أى مكان ، بينما فى مصر الفرعونية ، صدر مرسوم من الفرعون بعد طرد الهكسوس بأن نساء مصر الحرائر أصبحت لديهن الحرية الآن على كشف آذانهن "علامة على الطمأنينة" بعد أن طردنا الغزاة ، كانت مصر وطناً لا يطمح لاحتلال وطن آخر . وبالمناسبة البحتة ؛ يُقال أن الهكسوس هم قومٌ من العرب الذين احتلوا مصر قديماً وكان ملكهم يدعى الوليد بن الريان وسمى باسمه وادى الريان ، ويمكنك إستقصاء هذة المعلومة .

إذاً فالحضارة الإسلامية توسعية ، والحضارة المصرية قائمة على الإستقرار والأمن والرفاهية ، كانت عصور القوّة فى مصر الفرعونية تُقاس بالمبانى والمعابد والأهرامات ، لكن يمكنك أن تسأل أيّا من دعاة المرجعية الحضارية الإسلامية عن ما يراه من أوجه القوة والإزدهار فى الدولة الإسلامية ، سيحدثك عن جيوش تغزو وممالك تسقط وقلاع تُبنى ، ولا يخفى على أى شخص متوسط الذكاء أن يُدرك ما يلائم العصر ، التوسع والإحتلال والتعدى ، أم الحضارة القائمة على البناء والقوة والأمن ، وربما يدفع بعض الباحثين عن الثغرات بـ "أن هذا كان من الماضى لكن ما سنطبقه من الحضارة الإسلامية لن يتضمن التوسع العسكرى" ، أقول لهم : يجب أن توجهوا حديثكم هذا لفضيلة الشيخ بن باز رحمه الله ، أحد أقطاب الفكر السلفى وصاحب مدرسة ينتمى إليها فكرياً كثير من "المفكرين" الإسلاميين ، وهو نفسه الذى قال أن الجهاد ليس للدفاع فقط ، وأكد على هذة النقطة وأسهب فيها (هــنــا) ، ولو افترضنا أنكم إصلاحيين جدد وإسلامين معتدلين (!) وأصحاب مشروع إستقرار وأنكم سترجعون للحضارة الإسلامية بدون أخذ فكرة التوسع العسكرى" ضاربين بالمنطق عرض الحائط" ، فإنكم بهذا الشكل لن تجدوا شيئاً لتأخذوا منهُ شيئاً ، ببساطة ؛ كل الحضارة قامت على الجيوش وقعدت عليها ، كلما أصبح الجيش قويّاً أصبحت الدولة قوية ، وكلما ضعف الجيش انهارت الدولة ، ويخرج جيش من المنشقين أقوى من جيش الحاكم ليصبح الحاكم مخلوعاً والمنشق حاكماً ، كما حدث مع جيوش العباسيين وآخر خليفة أموى "عبدالرحمن الداخل" ، كانت دولة تقوم على الجيش وتوسعاته ولو حاولت نزع هذة الصفة لن تجد شيئاً ، ولو قلت إنجازات ، سأقول لك أين ؟ .. أين الأثر الباقى الذى نستطيع أن نقول بفخر "هذا أثر من الدولة الإسلامية" ، اللهم إلا بعض الكتب التى سلمت من السلب والحرق ، وسلم مؤلفوها من التكفير والإضطهاد والقتل بأمر الحاكم ، ويمكنك للمزيد مراجعة ما كتبته سابقاً هــنـــا .

إذاً فنحن بين خيارين ، ومرجعيتين ، واحدتهما هى أصلنا وتاريخنا الذى جربناه فكُنّا أقوى دولة فى التاريخ ، والثانية نموذج مشوّه يضج بالدماء وأصوات القتل والغزو ، الأولى جعلتنا متحضرين والثانية جعلتنا مشوهين ، ولنا حق الإختيار ، ولنا شرف النضال حتى لا يتحول وطننا إلى نسخة من دول فاشلة ، وحتى لا نتحول لشعب فاشل ، ويحكمنا مجموعة من اللاشئ ، المستندين إلى حضارات من اللاشئ ، حافظوا على مصر ذات الهويّة الفرعونية . ولا تخشوا على دينكم ، واقع الأمر يؤكد أن طريقة الحكم لا تؤثر على تدينك ولا تنزعه منك ، وواقع الأمر يحكى قصص الشيوخ الذين يعيشون حياتهم فى أوروبا ، والذين يحصلون على جنسيات الدول الكافرة ، لكن الإيمان فى القلب لا فى جواز السفر ، والدين ليس خانة فى البطاقة وليس صوتاً إنتخابياً ، الدين عقيدة لكن مرجعيتك الحضارية توجّه فكرى ، كُن مرناً ولا تتعرض للخداع ، اقرأ وابحث عن تاريخ وطنك كى تعلم من يستحق أن يكون مرجعية ، لو لم أخرج من كل كلماتى هذة إلا أن جعلت قارئاً واحداً يبحث عن الحضارة الفرعونية ويقتنع بها كمرجع حضارى نستمد منه تطورنا القادم ، لكفى .

تمثال للملك منكاو رع ـ متحف الفنون الجميلة بولاية بوسطن ـ الولايات المتحدة الأمريكية

الثلاثاء، 5 مارس 2013

كلام وانتقام


كان هناك طبيب يتحرش جنسيّاً بمريضاته أثناء الكشف الطبى ، وذات مرة أصيب بالشلل فى يده !

كان هناك طبيب يتحرّش بمريضاته أثناء الكشف الطبى ، وذات مرة ، تعرضت زوجته للتحرش الجنسى من قبل طبيب آخر !

كان هناك طبيب يتحرش بمريضاته أثناء الكشف الطبى ، واستمر فى جريمته فترة طويلة ولم تُشل يده ولم يتحرش أحد بزوجته !

الموقفين الأول والثانى ، يثيران فى النفس هذا الشعور بالعدل والإطمئنان ، لكنه ليس كذالك بالضبط ، ما حدث هو أنك بمجرد معرفة أن هذا الطبيب يتحرش بالمريضات ، ثارت فى نفسك شهوة الإنتقام ، وشلل يد الطبيب يرضى هذة الشهوة ، وأن يتحرش أحدهم بزوجة هذا الطبيب هو نوع من تنفيذ العدالة . لكن لو نظرنا للأمور بنظرة مُحايدة وآلية وخالية من هذا التداخل الشعورى الذى يقع فيه الإنسان ، سنجد أن هذا الطبيب ربما يُعانى من مرض نفسى ما لم تُتح له فرصة العلاج منه ، وأنه لو أصيب بالشلل سيتوقف عن ممارسة الطب ويتعرض أبناؤه وزوجته لمأساة محققة . كما أن زوجته لا علاقة لها بجرائمة ، ويكفيها ظُلماً أن زوجها يخونها .. هل من العدل أن تنصب جرائم زوجها عليها ، ولا تزر وازرةً وزر أخرى .

هكذا بالضبط هو شعور الإنتقام ، غير عقلانى وبنسبة كبيرة جداً غير عادل ، ويُضاف لهذا أيضاً أنه شعور أنانى لأقصى درجة ، ولتتضح هذة النقطة دعنا نتخيل مجتمعاً يسود فيه قانون رغبة الإنتقام ، تخيّل كم شخصاً يُريد أن ينتقم منك وهو يعتقد أن هذا قمة العدل ، تماماً كما قد تريد أنت الإنتقام من آخرين معتقداً أنك بهذا تحقق العدل ، رُبما الشخص الذى "طرطشت" عليه ميّة الشارع أثناء مروك بسيارتك ، يوّد لو يمسكك أنت وسيارتك ويغرقكما فى مياة المجارى ، تماماً كما تُريد أنت أن تُلقى الشخص الذى خبط فى سيارتك من الخلف . هو عدل من طرف واحد ، أو بمعنى أدق هو إرضاء لشهوة الإنتقام وتبريرها بتنفيذ العدل .

لكن ؛ أليس رفض الإنتقام بشكل مطلق قد يقف عائقاً أمام تنفيذ العدل . هذا قد يكون صحيحاً ، لكن فى عالم من البشر الآليين ، أو فى نموذج محاكاة كمبيوترى حيث يتم تطبيق القواعد والقوانين بشكل صارم وبدون مراعاة أى اعتبارات أخرى ، لكن فى كوكب كهذة الأرض الزرقاء ، تقول القاعدة أن "الحياة غير عادلة والأشخاص غير منطقيين" ، بمعنى : تخيّل عدد الأشخاص الذين يُلقى القبض عليهم بتهمة التحرش ، ويتم تنفيذ عدالة القانون ، ثم تخيّل العدد الآخر من الأشخاص الذين لا يُقبض عليهم ولا تنفذ فيهم عدالة القانون ، هل هذا عدل ؟ .. نعم هو كذالك بمقاييس الأرض ، وليس بمقاييس العدل الأوزوريسى المثالى . 

جميع الأديان ، وبعض الفلسفات ، تنُص على أن العدالة المثالية التى تُرضى النفس البشرية ستتحقق يوماً ما بعيداً عن هذة الأرض ، فكرة مُريحة ، وجاذبة ، وإن أقلبنا الجيم كافاً فى بعض الفلسفات الأخرى التى تحض على تقبل هذة العدالة الأرضية والتعايش معها . وحقيقةً يُعتبر تقبل هذة العدالة الغير مثالية هو الحل الوحيد . وهو أيضاً يُرضى شعور الأنانية الطبيعى لدى الإنسان لكن على المدى البعيد ، فمن حسن الحظ أننا لا نستطيع إلا التعايش ، وإلا كنت أنا وأنت سنُصبح مُعرضين ليد المثالية الإنتقامية بعد كل لفتة وكل تصرف ، وحتى إن لم تكن تتقبل هذا الواقع العادل جزئيّاً ـ الغير عادل جزئيّاً ، فأنت ببساطة لا يمكنك أن تُغيره ، سيتعرض طبيب مُتحرّش للعقاب ، وسيفلت آخرون ويعيشون حياة طبيعية ، لا يمكن إلا التقبل لأن الأرض لن تُغير قواعدها .

باولو وفرانشيسكا ـ دومينيك آنجر ـ من مدوّنة لوحات عالمية

السبت، 2 مارس 2013

الخوف القائد

يُقال ؛ أن سجيناً كان فى طريقه للهرب .. وبعد أن قفز خارج أسوار السجن وجد دراجة هوائية ، فقادها لمسافة 2 كيلومتر هرباً من الحراس ، وبعد كل هذة المسافة سقط على الأرض . وأقر بعد القبض عليه أنه لا يجيد قيادة الدراجة أصلاً ، ويُرجع علماء الفسيولوجى هذة الحالة إلى الخوف الشديد الذى شعر به الشخص مما أدى لإفراز مفرط فى هرمون الأدرينالين جعله يقوم بأشياء هو لا يستطيع القيام بها فى الواقع ، وعندما ابتعد بمسافة كافية عن الذين يطاردونه وشعر بالأمان انخفض معدل الأدرينالين وفقد القدرة الإستثنائية .

ويعتقد الطلاب الجامعيون أن قدرتهم العلمية على التحصيل الدراسى تتضاعف أكثر من مرة ليلة الإمتحان ، عن تجربة شخصية هذا صحيح إلى حد كبير . بدراسة غدد الجسد نجد أن هناك هرمونات مسئولة عن أى تصرف بشرى ، هرمونات للغضب وأخرى للسعادة وثالثة للحزن وهكذا ، دور هذة الهرمونات ليس دوراً هامشياً ، لو علمنا أن إفراز هرمون الخوف فى جسد قائد لدولة ما قد يؤدى لرغبته فى شن حرب وقائية  يُقتل فيها الآلاف . وفى الثورة المصرية مثلاً ؛ ربما كان الخوف وهرموناته لهم الدور الأكبر فى تحريك مسار الثورة ، وإن كنا لا ننكر دور الغضب الشعبى فى البداية لكنى أعتقد أن كل ما جاء بعد سقوط مبارك كان مدفوعاً بالخوف ، خوف بعض الثوّار من تغوّل الثورة وتحولها إلى شكل فاشى دفعهم لإنهاءها مبكراً ، وخوف البعض الآخر من ليونة الثورة وسهولة الإنقضاض عليها دفعهم للمغالاة فى محاولة حمايتها ، كذالك كان خوف السلفيين على دينهم الذى يعتقدون دوماً أنه فى خطر ويحتاج للحماية ، وخوف الإخوان على مصالحهم التى يعتقدون دوماً أنها فى خطر وتحتاج للحماية ، كل هذا الكم من الأدرينالين والأدرينالين المضاد تجمع فى ميدان التحرير وظهرت القدرات الإستثنائية من قتل ودهس وتشويه إعلامى ، تعاون الإخوان والسلفيين لم يكن ناجماً عن تقارب أيدلوجى وإنما هو فقط تقارب فى شعور الخوف ، أو يمكن تصنيفه على أنه إستغلال من الإخوان لكل مللى جرام من الأدرينالين تم إفرازه فى الشرايين السلفية .

والإخوان فى لعبة الأدرينالين هم الطرف الأذكى ، نذكر جميعاً الإنتخابات الرئاسية فى مرحلتها الثانية ، عندما كانت كل دعاية الإخوان تتركز فى جانب خوف الثوار من شفيق ، وأدى هذا الشعور إلى ظهور تيار عاصرى الليمون الغير راضين عن مرسى لكنهم سيختارونه بدافع الخوف ، وحتى السلفيين ، لديهم دوماً هذا التوجه الأيدلوجى المختلف الذى لا يتوافق أبداً مع الإخوان ، لكن تم إبتزازهم بـ "الخوف من العلمانيين" . إنهم دوماً يُدركون النقلة الفاصلة التى يسيطر فيها الخوف على الطرف الآخر ويستغلونها .

واليوم ، يظهر الخوف القائد مرة أخرى ليتولى مهام منصبه ، بعض المواطنين يقوموت بعمل توكيلات للجيش ليتولى السلطة ، لا يمكن أن يتواجد أى سبب منطقى لهذا التصرف إلا أنهم يشعرون بالرعب من سلطة الإخوان ، وقادهم هذا إلى تصرف لم يتوقعوا يوماً أن يُقدموا عليه ، والغريب أن بعض من وقّعوا توكيلات الجيش كانوا هم أنفسهم من هتفوا بسقوط حكم العسكر ، هل كانوا ينتظرون يوماً أن يروا أنفسهم وهم يهتفون بعودة حكم العسكر ؟ هؤلاء يجب توعيتهم ، بأن تصرفاتهم المدفوعة بالخوف لا يمكن أبداً أن تؤدى لنتائج سليمة .

الصرخة ـ إدفارد مونش ـ من ويكيميديا